فصل: فَصْلٌ: بَيَانُ مَا يُنْدَبُ إلَيْهِ الْإِمَامُ عِنْدَ بَعْثِ الْجَيْشِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: بَيَانُ مَا يُنْدَبُ إلَيْهِ الْإِمَامُ عِنْدَ بَعْثِ الْجَيْشِ:

وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُنْدَبُ إلَيْهِ الْإِمَامُ عِنْدَ بَعْثِ الْجَيْشِ أَوْ السَّرِيَّةِ إلَى الْجِهَادِ، فَنَقُولُ- وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: إنَّهُ يُنْدَبُ إلَى أَشْيَاءَ، مِنْهَا أَنْ يُؤَمِّرَ عَلَيْهِمْ أَمِيرًا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا بَعَثَ جَيْشًا إلَّا وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَمِيرًا، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْأَمِيرِ مَاسَةٌ؛ لِأَنَّهُ لابد مِنْ تَنْفِيذِ الْأَحْكَامِ وَسِيَاسَةِ الرَّعِيَّةِ، وَلَا يَقُومُ ذَلِكَ إلَّا بِالْأَمِيرِ لِتَعَذُّرِ الرُّجُوعِ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ إلَى الْإِمَامِ.
(وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الَّذِي يُؤَمَّرُ عَلَيْهِمْ عَالِمًا بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، عَدْلًا عَارِفًا بِوُجُوهِ السِّيَاسَاتِ، بَصِيرًا بِتَدَابِيرِ الْحُرُوبِ وَأَسْبَابِهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَا يَحْصُلُ مَا يُنْصَبُ لَهُ الْأَمِيرُ.
(وَمِنْهَا) أَنْ يُوصِيَهُ بِتَقْوَى اللَّهِ- عَزَّ شَأْنُهُ- فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ، وَبِمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ خَيْرًا، كَذَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إذَا بَعَثَ جَيْشًا أَوْصَاهُ بِتَقْوَى اللَّهِ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فِي نَفْسِهِ خَاصَّةً وَبِمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ خَيْرًا؛ وَلِأَنَّ الْإِمَارَةَ أَمَانَةٌ عَظِيمَةٌ فَلَا يَقُومُ بِهَا إلَّا الْمُتَّقِي وَإِذَا أَمَّرَ عَلَيْهِمْ يُكَلِّفُهُمْ طَاعَةَ الْأَمِيرِ فِيمَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ، وَيَنْهَاهُمْ عَنْهُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، وَلَوْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ أَجْدَعُ مَا حَكَمَ فِيكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ- تَعَالَى» وَلِأَنَّهُ نَائِبُ الْإِمَامِ، وَطَاعَةُ الْإِمَامِ لَازِمَةٌ كَذَا طَاعَتُهُ؛ لِأَنَّهَا طَاعَةُ الْإِمَامِ، إلَّا أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا تَجُوزُ طَاعَتُهُمْ إيَّاهُ فِيهَا؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ» وَلَوْ أَمَرَهُمْ بِشَيْءٍ لَا يَدْرُونَ أَيَنْتَفِعُونَ بِهِ أَمْ لَا، فَيَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ فِيهِ إذَا لَمْ يَعْلَمُوا كَوْنَهُ مَعْصِيَةً؛ لِأَنَّ اتِّبَاعَ الْإِمَامِ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ وَاجِبٌ، كَاتِّبَاعِ الْقُضَاةِ فِي مَوَاضِعِ الِاجْتِهَادِ وَاَللَّهُ تَعَالَى- عَزَّ شَأْنُهُ- أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: بَيَانُ مَا يَجِبُ عَلَى الْغُزَاةِ الِافْتِتَاحُ بِهِ:

وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَجِبُ عَلَى الْغُزَاةِ الِافْتِتَاحُ بِهِ حَالَةَ الْوَقْعَةِ، وَلِقَاءِ الْعَدُوِّ، فَنَقُولُ- وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: إنَّ الْأَمْرَ فِيهِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ كَانَتْ الدَّعْوَةُ قَدْ بَلَغَتْهُمْ، وَإِمَّا أَنْ كَانَتْ لَمْ تَبْلُغْهُمْ، فَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَةُ لَمْ تَبْلُغْهُمْ فَعَلَيْهِمْ الِافْتِتَاحُ بِالدَّعْوَةِ إلَى الْإِسْلَامِ بِاللِّسَانِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {اُدْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وَلَا يَجُوزُ لَهُمْ الْقِتَالُ قَبْلَ الدَّعْوَةِ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ بُلُوغِ الدَّعْوَةِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ فَاسْتَحَقُّوا الْقَتْلَ بِالِامْتِنَاعِ، لَكِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَرَّمَ قِتَالَهُمْ قَبْلَ بَعْثِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَبُلُوغِ الدَّعْوَةِ إيَّاهُمْ فَضْلًا مِنْهُ وَمِنَّةً قَطْعًا لِمَعْذِرَتِهِمْ بِالْكُلِّيَّةِ وَإِنْ كَانَ لَا عُذْرَ لَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ؛ لِمَا أَقَامَ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مِنْ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي لَوْ تَأَمَّلُوهَا حَقَّ التَّأَمُّلِ، وَنَظَرُوا فِيهَا لَعَرَفُوا حَقَّ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَيْهِمْ، لَكِنْ تَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ- صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ؛ لِئَلَّا يَبْقَى لَهُمْ شُبْهَةُ عُذْرٍ {فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ}.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ لِمَا بَيَّنَّا، وَلِأَنَّ الْقِتَالَ مَا فُرِضَ لِعَيْنِهِ بَلْ لِلدَّعْوَةِ إلَى الْإِسْلَامِ، وَالدَّعْوَةُ دَعْوَتَانِ: دَعْوَةٌ بِالْبَنَانِ، وَهِيَ الْقِتَالُ وَدَعْوَةٌ بِالْبَيَانِ، وَهُوَ اللِّسَانُ، وَذَلِكَ بِالتَّبْلِيغِ وَالثَّانِيَةُ أَهْوَنُ مِنْ الْأُولَى؛ لِأَنَّ فِي الْقِتَالِ مُخَاطَرَةَ الرُّوحِ وَالنَّفْسِ وَالْمَالِ، وَلَيْسَ فِي دَعْوَةِ التَّبْلِيغِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَإِذَا احْتَمَلَ حُصُولُ الْمَقْصُودِ بِأَهْوَنِ الدَّعْوَتَيْنِ لَزِمَ الِافْتِتَاحُ بِهَا، هَذَا إذَا كَانَتْ الدَّعْوَةُ لَمْ تَبْلُغْهُمْ، فَإِنْ كَانَتْ قَدْ بَلَغَتْهُمْ جَازَ لَهُمْ أَنْ يَفْتَتِحُوا الْقِتَالَ مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ الدَّعْوَةِ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْحُجَّةَ لَازِمَةٌ، وَالْعُذْرُ فِي الْحَقِيقَةِ مُنْقَطِعٌ، وَشُبْهَةُ الْعُذْرِ انْقَطَعَتْ بِالتَّبْلِيغِ مَرَّةً، لَكِنْ مَعَ هَذَا الْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَفْتَتِحُوا الْقِتَالَ إلَّا بَعْدَ تَجْدِيدِ الدَّعْوَةِ لِرَجَاءِ الْإِجَابَةِ فِي الْجُمْلَةِ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُقَاتِلُ الْكَفَرَةَ حَتَّى يَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ فِيمَا كَانَ دَعَاهُمْ غَيْرَ مَرَّةٍ دَلَّ أَنَّ الِافْتِتَاحَ بِتَجْدِيدِ الدَّعْوَةِ أَفْضَلُ، ثُمَّ، إذَا دَعَوْهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَسْلَمُوا كَفُّوا عَنْهُمْ الْقِتَالَ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا» وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي دَمَهُ وَمَالَهُ» فَإِنْ أَبَوْا الْإِجَابَةَ إلَى الْإِسْلَامِ دَعَوْهُمْ إلَى الذِّمَّةِ، إلَّا مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْمُرْتَدِّينَ لِمَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدُ فَإِنْ أَجَابُوا كَفُّوا عَنْهُمْ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «فَإِنْ قَبِلُوا عَقْدَ الذِّمَّةِ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ أَبَوْا، اسْتَعَانُوا بِاَللَّهِ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَلَى قِتَالِهِمْ» وَوَثَّقُوا بِعَهْدِ اللَّهِ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- النَّصْرَ لَهُمْ بَعْدَ أَنْ بَذَلُوا جُهْدَهُمْ، وَاسْتَفْرَغُوا وُسْعَهُمْ، وَثَبَتُوا وَأَطَاعُوا اللَّهَ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وَرَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا عَلَى مَا قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} وَلَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ وَإِنْ لَمْ يَبْدَءُوا بِالدَّعْوَةِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ- تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وَسَوَاءٌ كَانَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ أَوْ فِي غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ صَارَتْ مَنْسُوخَةً بِآيَةِ السَّيْفِ، وَغَيْرِهَا مِنْ آيَاتِ الْقِتَالِ، وَلَا بَأْسَ بِالْإِغَارَةِ وَالْبَيَاتِ عَلَيْهِمْ، وَلَا بَأْسَ بِقَطْعِ أَشْجَارِهِمْ الْمُثْمِرَةِ، وَغَيْرِ الْمُثْمِرَةِ، وَإِفْسَادِ زُرُوعِهِمْ؛ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} أَذِنَ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بِقَطْعِ النَّخِيلِ فِي صَدْرِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ، وَنَبَّهَ فِي آخِرِهَا أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ كَبْتًا وَغَيْظًا لِلْعَدُوِّ بِقَوْلِهِ- تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ}.
وَلَا بَأْسَ بِإِحْرَاقِ حُصُونِهِمْ بِالنَّارِ، وَإِغْرَاقِهَا بِالْمَاءِ، وَتَخْرِيبِهَا وَهَدْمِهَا عَلَيْهِمْ، وَنَصْبِ الْمَنْجَنِيقِ عَلَيْهَا؛ لِقَوْلِهِ- تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} وَلِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْقِتَالِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ قَهْرِ الْعَدُوِّ وَكَبْتِهِمْ وَغَيْظِهِمْ، وَلِأَنَّ حُرْمَةَ الْأَمْوَالِ؛ لِحُرْمَةِ أَرْبَابِهَا، وَلَا حُرْمَةَ لِأَنْفُسِهِمْ حَتَّى يُقْتَلُونَ، فَكَيْفَ لِأَمْوَالِهِمْ؟ وَلَا بَأْسَ بِرَمْيِهِمْ بِالنِّبَالِ، وَإِنْ عَلِمُوا أَنَّ فِيهِمْ مُسْلِمِينَ مِنْ الْأَسَارَى وَالتُّجَّارِ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرُورَةِ، إذْ حُصُونُ الْكَفَرَةِ قَلَّمَا تَخْلُو مِنْ مُسْلِمٍ أَسِيرٍ، أَوْ تَاجِرٍ فَاعْتِبَارُهُ يُؤَدِّي إلَى انْسِدَادِ بَابِ الْجِهَادِ، وَلَكِنْ يَقْصِدُونِ بِذَلِكَ الْكَفَرَةَ دُونَ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ فِي الْقَصْدِ إلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ.
وَكَذَا إذَا تَتَرَّسُوا بِأَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا بَأْسَ بِالرَّمْيِ إلَيْهِمْ؛ لِضَرُورَةِ إقَامَةِ الْفَرْضِ، لَكِنَّهُمْ يَقْصِدُونَ الْكُفَّارَ دُونَ الْأَطْفَالِ، فَإِنْ رَمَوْهُمْ فَأَصَابَ مُسْلِمًا فَلَا دِيَةَ وَلَا كَفَّارَةَ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ: تَجِبُ الدِّيَةُ، وَالْكَفَّارَةُ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ.
(وَجْهُ) قَوْلِ الْحَسَنِ أَنَّ دَمَ الْمُسْلِمِ مَعْصُومٌ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعَ مِنْ الرَّمْيِ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُمْنَعْ لِضَرُورَةِ إقَامَةِ الْفَرْضِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ وَالضَّرُورَةُ فِي رَفْعِ الْمُؤَاخَذَةِ لَا فِي نَفْيِ الضَّمَانِ، كَتَنَاوُلِ مَاءِ الْغَيْرِ حَالَةَ الْمَخْمَصَةِ إنَّهُ رَخَّصَ لَهُ التَّنَاوُلَ لَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ لِمَا ذَكَرنَا، كَذَلِكَ هَاهُنَا.
(وَلَنَا) أَنَّهُ كَمَا مَسَّتْ الضَّرُورَةُ إلَى دَفْعِ الْمُؤَاخَذَةِ لِإِقَامَةِ فَرْضِ الْقِتَالِ، مَسَّتْ الضَّرُورَةُ إلَى نَفْيِ الضَّمَانِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ يَمْنَعُ مِنْ إقَامَةِ الْفَرْضِ؛ لِأَنَّهُمْ يَمْتَنِعُونَ مِنْهُ خَوْفًا مِنْ لُزُومِ الضَّمَانِ، وَإِيجَابِ مَا يَمْنَعُ مِنْ إقَامَةِ الْوَاجِبِ مُتَنَاقِضٌ، وَفَرْضُ الْقِتَالِ لَمْ يَسْقُطْ، دَلَّ أَنَّ الضَّمَانَ سَاقِطٌ بِخِلَافِ حَالَةِ الْمَخْمَصَةِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ هُنَاكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ التَّنَاوُلِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَنَاوَلْ لَهَلَكَ، وَكَذَا حَصَلَ لَهُ مِثْلُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ، فَلَا يَمْنَعُ مِنْ التَّنَاوُلِ، فَلَا يُؤَدِّي إلَى التَّنَاقُضِ، وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْتَعِينُوا بِالْكُفَّارِ عَلَى قِتَالِ الْكُفَّارِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ غَدْرُهُمْ، إذْ الْعَدَاوَةُ الدِّينِيَّةُ تَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ، إلَّا إذَا اُضْطُرُّوا إلَيْهِمْ وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: بَيَانُ مَنْ يَحِلُّ قَتْلُهُ مِنْ الْكَفَرَةِ وَمَنْ لَا يَحِلُّ:

وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ يَحِلُّ قَتْلُهُ مِنْ الْكَفَرَةِ وَمَنْ لَا يَحِلُّ، فَنَقُولُ: الْحَالُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ حَالَ الْقِتَالِ، أَوْ حَالَ مَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْقِتَالِ، وَهِيَ مَا بَعْدَ الْأَخْذِ وَالْأَسْرِ، أَمَّا حَالَ الْقِتَالِ فَلَا يَحِلُّ فِيهَا قَتْلُ امْرَأَةٍ وَلَا صَبِيٍّ، وَلَا شَيْخٍ فَانٍ، وَلَا مُقْعَدٍ وَلَا يَابِسِ الشِّقِّ، وَلَا أَعْمَى، وَلَا مَقْطُوعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ مِنْ خِلَافٍ، وَلَا مَقْطُوعِ الْيَدِ الْيُمْنَى، وَلَا مَعْتُوهٍ، وَلَا رَاهِبٍ فِي صَوْمَعَةٍ، وَلَا سَائِحٍ فِي الْجِبَالِ لَا يُخَالِطُ النَّاسَ، وَقَوْمٍ فِي دَارٍ أَوْ كَنِيسَةٍ تَرَهَّبُوا وَطَبَقَ عَلَيْهِمْ الْبَابُ، أَمَّا الْمَرْأَةُ وَالصَّبِيُّ، فَلِقَوْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا تَقْتُلُوا امْرَأَةً وَلَا وَلَيَدًا» وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَأَى فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ امْرَأَةً مَقْتُولَةً فَأَنْكَرَ ذَلِكَ وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «هَاهْ مَا أُرَاهَا قَاتَلَتْ، فَلِمَ قُتِلَتْ؟ وَنَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ» وَلِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، فَلَا يُقْتَلُونَ، وَلَوْ قَاتَلَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ قُتِلَ، وَكَذَا لَوْ حَرَّضَ عَلَى الْقِتَالِ، أَوْ دَلَّ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ كَانَ الْكَفَرَةُ يَنْتَفِعُونَ بِرَأْيِهِ، أَوْ كَانَ مُطَاعًا، وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً أَوْ صَغِيرًا؛ لِوُجُودِ الْقِتَالِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى.
وَقَدْ رُوِيَ: «أَنَّ رَبِيعَةَ بْنَ رَفِيعٍ السُّلَمِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَدْرَكَ دُرَيْدَ بْنَ الصِّمَّةِ يَوْمَ حُنَيْنٌ، فَقَتَلَهُ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ كَالْقَفَّةِ، لَا يَنْفَعُ إلَّا بِرَأْيِهِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ» وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ يَحِلُّ قَتْلُهُ، سَوَاءٌ قَاتَلَ أَوْ لَمْ يُقَاتِلْ، وَكُلُّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ إلَّا إذَا قَاتَلَ حَقِيقَةً أَوْ مَعْنًى بِالرَّأْيِ وَالطَّاعَةِ وَالتَّحْرِيضِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، فَيُقْتَلُ الْقِسِّيسُ وَالسَّيَّاحُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ، وَاَلَّذِي يُجَنُّ وَيُفِيقُ، وَالْأَصَمُّ وَالْأَخْرَسُ، وَأَقْطَعُ الْيَدِ الْيُسْرَى، وَأَقْطَعُ إحْدَى الرِّجْلَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلُوا؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، وَلَوْ قُتِلَ وَاحِدٌ مِمَّنْ ذَكَرنَا أَنَّهُ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ فَلَا شَيْءَ فِيهِ مِنْ دِيَةٍ وَلَا كَفَّارَةٍ، إلَّا التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ؛ لِأَنَّ دَمَ الْكَافِرِ لَا يَتَقَوَّمُ إلَّا بِالْأَمَانِ وَلَمْ يُوجَدْ وَأَمَّا حَالَ مَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْقِتَالِ، وَهِيَ مَا بَعْدَ الْأَسْرِ وَالْأَخْذِ، فَكُلُّ مَنْ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ فِي حَالِ الْقِتَالِ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْقِتَالِ، وَكُلُّ مَنْ يَحِلُّ قَتْلُهُ فِي حَالِ الْقِتَالِ إذَا قَاتَلَ حَقِيقَةً أَوْ مَعْنًى، يُبَاحُ قَتْلُهُ بَعْدَ الْأَخْذِ وَالْأَسْرِ إلَّا الصَّبِيَّ، وَالْمَعْتُوهَ الَّذِي لَا يَعْقِلُ، فَإِنَّهُ يُبَاحُ قَتْلُهُمَا فِي حَالِ الْقِتَالِ إذَا قَاتَلَا حَقِيقَةً وَمَعْنًى، وَلَا يُبَاحُ قَتْلُهُمَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْقِتَالِ إذَا أُسِرَا، وَإِنْ قَتَلَا جَمَاعَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي الْقِتَالِ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ بَعْدَ الْأَسْرِ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ، وَهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْعُقُوبَةِ، فَأَمَّا الْقَتْلُ فِي حَالَةِ الْقِتَالِ فَلِدَفْعِ شَرِّ الْقِتَالِ، وَقَدْ وُجِدَ الشَّرُّ مِنْهُمَا فَأُبِيحَ قَتْلُهُمَا لِدَفْعِ الشَّرِّ، وَقَدْ انْعَدَمَ الشَّرُّ بِالْأَسْرِ، فَكَانَ الْقَتْلُ بَعْدَهُ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ، وَهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِهَا وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.
وَيُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَبْتَدِئَ أَبَاهُ الْكَافِرَ الْحَرْبِيَّ بِالْقَتْلِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} أَمَرَ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بِمُصَاحَبَةِ الْأَبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالِابْتِدَاءُ بِالْقَتْلِ لَيْسَ مِنْ الْمُصَاحَبَةِ بِالْمَعْرُوفِ.
وَرُوِيَ: «أَنَّ حَنْظَلَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ غَسِيلَ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَتْلِ أَبِيهِ، فَنَهَاهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ» وَلِأَنَّ الشَّرْعَ أَمَرَ بِإِحْيَائِهِ بِالنَّفَقَةِ عَلَيْهِ، فَالْأَمْرُ بِالْقَتْلِ فِيهِ إفْنَاؤُهُ، يَكُونُ مُتَنَاقِضًا فَإِنْ قَصَدَ الْأَبُ قَتْلَهُ، يَدْفَعْهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَإِنْ أَتَى ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا يُكْرَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَاتِ الدَّفْعِ، وَلَكِنْ لَا يَقْصِدُ بِالدَّفْعِ الْقَتْلَ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إلَى الْقَصْدِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: بَيَانُ مَنْ يَسَعُ تَرْكُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ:

وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ يَسَعُ تَرْكُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مِمَّنْ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ، وَمَنْ لَا يَسَعُ فَالْأَمْرُ فِيهِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ، أَمَّا إذَا كَانَ الْغُزَاةُ قَادِرِينَ عَلَى عَمَلِ هَؤُلَاءِ، وَإِخْرَاجِهِمْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَأَمَّا إنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، فَإِنْ قَدِرُوا عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْمَتْرُوكُ مِمَّنْ يُولَدُ لَهُ وَلَدٌ، لَا يَجُوزُ تَرْكُهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ فِي تَرْكِهِمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ عَوْنًا لَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِاللِّقَاحِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُولَدُ لَهُ وَلَدٌ، كَالشَّيْخِ الْفَانِي الَّذِي لَا قِتَالَ عِنْدَهُ، وَلَا لِقَاحَ، فَإِنْ كَانَ ذَا رَأْيٍ وَمَشُورَةٍ، فَلَا يُبَاحُ تَرْكُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَضَرَّةِ بِالْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُمْ يَسْتَعِينُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِرَأْيِهِ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَأْيٌ فَإِنْ شَاءُوا تَرَكُوهُ، فَإِنَّهُ لَا مَضَرَّةَ عَلَيْهِمْ فِي تَرْكِهِ، وَإِنْ شَاءُوا أَخْرَجُوهُ لِفَائِدَةِ الْمُفَادَاةِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى مُفَادَاةَ الْأَسِيرِ بِالْأَسِيرِ، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يَرَى لَا يُخْرِجُونَهُمْ؛ لِمَا أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي إخْرَاجِهِمْ، وَكَذَلِكَ الْعَجُوزُ الَّتِي لَا يُرْجَى وَلَدُهَا، وَكَذَلِكَ الرُّهْبَانُ، وَأَصْحَابُ الصَّوَامِعِ إذَا كَانُوا حُضُورًا، لَا يَلْحَقُونَ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ الْمُسْلِمُونَ عَلَى حَمْلِ هَؤُلَاءِ وَنَقْلِهِمْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، لَا يَحِلُّ قَتْلُهُمْ، وَيُتْرَكُونَ فِي دَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ نَهَى عَنْ قَتْلِهِمْ، وَلَا قُدْرَةَ عَلَى نَقْلِهِمْ، فَيُتْرَكُونَ ضَرُورَةً.
وَأَمَّا الْحَيَوَانُ وَالسِّلَاحُ إذَا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْإِخْرَاجِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ أَمَّا الْحَيَوَانُ فَيُذْبَحُ ثُمَّ يُحْرَقُ بِالنَّارِ؛ لِئَلَّا يُمْكِنَهُمْ الِانْتِفَاعُ بِهِ وَأَمَّا السِّلَاحُ فَمَا يُمْكِنُ إحْرَاقُهُ بِالنَّارِ يُحْرَقُ، وَمَا لَا يَحْتَمِلُ الْإِحْرَاقَ كَالْحَدِيدِ وَنَحْوِهِ، فَيُدْفَنُ بِالتُّرَابِ لِئَلَّا يَجِدُوهُ وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: بَيَانُ مَا يُكْرَهُ حَمْلُهُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ:

وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُكْرَهُ حَمْلُهُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَمَا لَا يُكْرَهُ، فَنَقُولُ: لَيْسَ لِلتَّاجِرِ أَنْ يَحْمِلَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ أَهْلُ الْحَرْبِ عَلَى الْحَرْبِ مِنْ الْأَسْلِحَةِ، وَالْخَيْلِ، وَالرَّقِيقِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَكُلِّ مَا يُسْتَعَانُ بِهِ فِي الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ فِيهِ إمْدَادَهُمْ، وَإِعَانَتَهُمْ عَلَى حَرْبِ الْمُسْلِمِينَ قَالَ اللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} فَلَا يُمَكَّنُ مِنْ الْحَمْلِ وَكَذَا الْحَرْبِيُّ إذَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ لَا يُمَكَّنُ مِنْ أَنْ يَشْتَرِيَ السِّلَاحَ، وَلَوْ اشْتَرَى لَا يُمَكَّنُ مِنْ أَنْ يُدْخِلَهُ دَارَ الْحَرْبِ لِمَا قُلْنَا، إلَّا إذَا كَانَ دَاخِلَ دَارِ الْإِسْلَامِ بِسِلَاحٍ فَاسْتَبْدَلَهُ، فَيُنْظَرُ فِي ذَلِكَ، إنْ كَانَ الَّذِي اسْتَبْدَلَهُ خِلَافَ جِنْسِ سِلَاحِهِ، بِأَنْ اُسْتُبْدِلَ الْقَوْسُ بِالسَّيْفِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، لَا يُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ أَصْلًا، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ سِلَاحِهِ، فَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ، أَوْ أَرْدَأَ مِنْهُ يُمَكَّنُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ أَجْوَدَ مِنْهُ لَا يُمَكَّنُ مِنْهُ لِمَا قُلْنَا.
وَلَا بَأْسَ بِحَمْلِ الثِّيَابِ وَالْمَتَاعِ وَالطَّعَامِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ إلَيْهِمْ؛ لِانْعِدَامِ مَعْنَى الْإِمْدَادِ، وَالْإِعَانَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ جَرَتْ الْعَادَةُ مِنْ تُجَّارِ الْأَعْصَارِ، أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ دَارَ الْحَرْبِ لِلتِّجَارَةِ مِنْ غَيْرِ ظُهُورِ الرَّدِّ وَالْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ، إلَّا أَنَّ التَّرْكَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُمْ يَسْتَخِفُّونَ بِالْمُسْلِمِينَ، وَيَدْعُونَهُمْ إلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ، فَكَانَ الْكَفُّ وَالْإِمْسَاكُ عَنْ الدُّخُولِ مِنْ بَابِ صِيَانَةِ النَّفْسِ عَنْ الْهَوَانِ، وَالدِّينِ عَنْ الزَّوَالِ، فَكَانَ أَوْلَى.
وَأَمَّا الْمُسَافَرَةُ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَيُنْظَرُ فِي ذَلِكَ، إنْ كَانَ الْعَسْكَرُ عَظِيمًا مَأْمُونًا عَلَيْهِ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ إلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَإِذَا كَانَ الْعَسْكَرُ عَظِيمًا يَقَعُ الْأَمْنُ عَنْ الْوُقُوعِ فِي أَيْدِي الْكَفَرَةِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَأْمُونًا عَلَيْهِ، كَالسَّرِيَّةِ يُكْرَهُ الْمُسَافَرَةُ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ خَوْفِ الْوُقُوعِ فِي أَيْدِيهِمْ وَالِاسْتِخْفَافِ بِهِ، فَكَانَ الدُّخُولُ بِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ تَعْرِيضًا لِلِاسْتِخْفَافِ بِالْمُصْحَفِ الْكَرِيمِ.
وَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ، مَحْمُولٌ عَلَى الْمُسَافَرَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ إخْرَاجِ النِّسَاءِ مَعَ أَنْفُسِهِمْ إلَى دَارِ الْحَرْبِ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ، إنْ كَانَ ذَلِكَ فِي جَيْشٍ عَظِيمٍ مَأْمُونٍ عَلَيْهِ، غَيْرُ مَكْرُوهٍ؛ لِأَنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ إلَى الطَّبْخِ وَالْغُسْلِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ سَرِيَّةً لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا يُكْرَهُ إخْرَاجُهُنَّ لِمَا قُلْنَا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: بَيَانُ مَا يَعْتَرِضُ مِنْ الْأَسْبَابِ الْمُحَرِّمَةِ لِلْقِتَالِ:

وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَعْتَرِضُ مِنْ الْأَسْبَابِ الْمُحَرِّمَةِ لِلْقِتَالِ فَنَقُولُ- وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ: الْأَسْبَابُ الْمُعْتَرِضَةُ الْمُحَرِّمَةُ لِلْقِتَالِ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ، الْإِيمَانُ، وَالْأَمَانُ، وَالِالْتِجَاءُ إلَى الْحَرَمِ، أَمَّا الْإِيمَانُ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ، أَحَدُهُمَا: فِي بَيَانِ مَا يُحْكَمُ بِهِ بِكَوْنِ الشَّخْصِ مُؤْمِنًا وَالثَّانِي: فِي بَيَانِ حُكْمِ الْإِيمَانِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ: الطُّرُقُ الَّتِي يُحْكَمُ بِهَا بِكَوْنِ الشَّخْصِ مُؤْمِنًا ثَلَاثَةٌ: نَصٌّ، وَدَلَالَةٌ، وَتَبَعِيَّةٌ.
أَمَّا النَّصُّ فَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ بِالشَّهَادَةِ، أَوْ بِالشَّهَادَتَيْنِ، أَوْ يَأْتِيَ بِهِمَا مَعَ التَّبَرُّؤِ مِمَّا هُوَ عَلَيْهِ صَرِيحًا.
وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّ الْكَفَرَةَ أَصْنَافٌ أَرْبَعَةٌ: صِنْفٌ مِنْهُمْ يُنْكِرُونَ الصَّانِعَ أَصْلًا، وَهُمْ الدَّهْرِيَّةُ الْمُعَطِّلَةُ، وَصِنْفٌ مِنْهُمْ يُقِرُّونَ بِالصَّانِعِ وَيُنْكِرُونَ تَوْحِيدَهُ، وَهُمْ الْوَثَنِيَّةُ وَالْمَجُوسُ، وَصِنْفٌ مِنْهُمْ يُقِرُّونَ بِالصَّانِعِ وَتَوْحِيدِهِ وَيُنْكِرُونَ الرِّسَالَةَ رَأْسًا، وَهُمْ قَوْمٌ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ، وَصِنْفٌ مِنْهُمْ يُقِرُّونَ بِالصَّانِعِ وَتَوْحِيدِهِ وَالرِّسَالَةِ فِي الْجُمْلَةِ، لَكِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ رِسَالَةَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ- عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ- وَهُمْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَإِنْ كَانَ مِنْ الصِّنْفِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، فَقَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ يَمْتَنِعُونَ عَنْ الشَّهَادَةِ أَصْلًا.
فَإِذَا أَقَرُّوا بِهَا كَانَ ذَلِكَ دَلِيلَ إيمَانِهِمْ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُمْ يَمْتَنِعُونَ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ كَلِمَتَيْ الشَّهَادَةِ، فَكَانَ الْإِتْيَانُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا- أَيَّتَهُمَا كَانَتْ- دَلَالَةَ الْإِيمَانِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الصِّنْفِ الثَّالِثِ فَقَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ؛ لِأَنَّ مُنْكِرَ الرِّسَالَةِ لَا يَمْتَنِعُ عَنْ هَذِهِ الْمَقَالَةِ، وَلَوْ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ عَنْ هَذِهِ الشَّهَادَةِ، فَكَانَ الْإِقْرَارُ بِهَا دَلِيلَ الْإِيمَانِ.
وَإِنْ كَانَ مِنْ الصِّنْفِ الرَّابِعِ فَأَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ فَقَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ حَتَّى يَتَبَرَّأَ مِنْ الدِّينِ الَّذِي عَلَيْهِ؛ مِنْ الْيَهُودِيَّةِ أَوْ النَّصْرَانِيَّةِ؛ لِأَنَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُقِرُّ بِرِسَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ؛ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنَّهُ يَقُولُ: إنَّهُ بُعِثَ إلَى الْعَرَبِ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِمْ فَلَا يَكُونُ إتْيَانُهُ بِالشَّهَادَتَيْنِ بِدُونِ التَّبَرُّؤِ دَلِيلًا عَلَى إيمَانِهِ، وَكَذَا إذَا قَالَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ: أَنَا مُؤْمِنٌ أَوْ مُسْلِمٌ أَوْ قَالَ: آمَنْتُ أَوْ: أَسْلَمْتُ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ؛ لِأَنَّهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ وَمُسْلِمُونَ، وَالْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ هُوَ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّهُ قَالَ: إذَا قَالَ الْيَهُودِيُّ أَوْ النَّصْرَانِيُّ: أَنَا مُسْلِمٌ أَوْ قَالَ: أَسْلَمْتُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ أَيَّ شَيْءٍ أَرَدْتَ بِهِ إنْ قَالَ: أَرَدْتُ بِهِ تَرْكَ الْيَهُودِيَّةِ، أَوْ النَّصْرَانِيَّةِ، وَالدُّخُولَ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ، حَتَّى لَوْ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ كَانَ مُرْتَدًّا وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ بِقَوْلِي: أَسْلَمْتُ أَنِّي عَلَى الْحَقِّ، وَلَمْ أُرِدْ بِذَلِكَ الرُّجُوعَ عَنْ دِينِي لَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ وَلَوْ قَالَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَتَبَرَّأُ عَنْ الْيَهُودِيَّةِ، أَوْ النَّصْرَانِيَّةِ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَمْتَنِعُونَ عَنْ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، وَالتَّبَرُّؤِ عَنْ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّة، لَا يَكُونُ دَلِيلَ الدُّخُولِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ تَبَرَّأَ عَنْ ذَلِكَ، وَدَخَلَ فِي دِينٍ آخَرَ سِوَى دِينِ الْإِسْلَامِ، فَلَا يَصْلُحُ التَّبَرُّؤُ دَلِيلَ الْإِيمَانِ مَعَ الِاحْتِمَالِ، وَلَوْ أَقَرَّ مَعَ ذَلِكَ فَقَالَ: دَخَلْتُ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ أَوْ فِي دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُكِمَ بِالْإِسْلَامِ؛ لِزَوَالِ الِاحْتِمَالِ بِهَذِهِ الْقَرِينَةِ وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) بَيَانُ مَا يُحْكَمُ بِهِ بِكَوْنِهِ مُؤْمِنًا مِنْ طَرِيقِ الدَّلَالَةِ، فَنَحْوُ أَنْ يُصَلِّيَ كِتَابِيٌّ، أَوْ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ فِي جَمَاعَةٍ، وَيُحْكَمَ بِإِسْلَامِهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ وَلَوْ صَلَّى وَحْدَهُ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ.
(وَجْهُ) قَوْلِ الشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- إنَّ الصَّلَاةَ لَوْ صَلَحَتْ دَلَالَةَ الْإِيمَانِ لَمَا افْتَرَقَ الْحَالُ فِيهَا بَيْنَ حَالِ الِانْفِرَادِ، وَبَيْنَ حَالِ الِاجْتِمَاعِ وَلَوْ صَلَّى وَحْدَهُ لَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ فَعَلَى ذَلِكَ إذَا صَلَّى بِجَمَاعَةٍ.
(وَلَنَا) أَنَّ الصَّلَاةَ بِالْجَمَاعَةِ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ الَّتِي نُصَلِّيهَا الْيَوْمَ، لَمْ تَكُنْ فِي شَرَائِعِ مَنْ قَبْلَنَا، فَكَانَتْ مُخْتَصَّةً بِشَرِيعَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَتْ دَلَالَةً عَلَى الدُّخُولِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، بِخِلَافِ مَا إذَا صَلَّى وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ وَحْدَهُ غَيْرُ مُخْتَصَّةٍ بِشَرِيعَتِنَا وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّهُ إذَا صَلَّى وَحْدَهُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ دَلِيلُ الْإِسْلَامِ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ شَهِدَ جِنَازَتَنَا، وَصَلَّى إلَى قِبْلَتِنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا، فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ».
وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا أَذَّنَ فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ عِنْدَنَا، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- لَنَا أَنَّ الْأَذَانَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، فَكَانَ الْإِتْيَانُ بِهِ دَلِيلَ قَبُولِ الْإِسْلَامِ، وَلَوْ قَرَأَ الْقُرْآنَ أَوْ تَلَقَّنَهُ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ مَا فِيهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْتَقِدَهُ حَقِيقَةً، إذْ لَا كُلُّ مَنْ يَعْلَمُ شَيْئًا يُؤْمِنُ بِهِ، كَالْمُعَانِدِينَ مِنْ الْكَفَرَةِ، وَلَوْ حَجَّ هَلْ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ قَالُوا: يُنْظَرُ فِي ذَلِكَ إنْ تَهَيَّأَ لِلْإِحْرَامِ، وَلَبَّى وَشَهِدَ الْمَنَاسِكَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ؛ لِأَنَّ عِبَادَةَ الْحَجِّ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ الْمَخْصُوصَةِ، لَمْ تَكُنْ فِي الشَّرَائِعِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَكَانَتْ مُخْتَصَّةً بِشَرِيعَتِنَا، فَكَانَتْ دَلَالَةَ الْإِيمَانِ كَالصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ.
وَإِنْ لَبَّى وَلَمْ يَشْهَدْ الْمَنَاسِكَ، أَوْ شَهِدَ الْمَنَاسِكَ، وَلَمْ يُلَبِّ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ عِبَادَةً فِي شَرِيعَتِنَا إلَّا بِالْأَدَاءِ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ، وَالْأَدَاءُ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ لَا يَكُونُ دَلِيلَ الْإِسْلَامِ، وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُمَا رَأَيَاهُ يُصَلِّي سَنَةً، وَمَا قَالَا: رَأَيْنَاهُ يُصَلِّي فِي جَمَاعَةٍ وَهُوَ يَقُولُ: صَلَّيْتُ صَلَوَاتِي لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ؛ لِأَنَّهُمْ يُصَلُّونَ أَيْضًا، فَلَا تَكُونُ الصَّلَاةُ الْمُطْلَقَةُ دَلَالَةَ الْإِسْلَامِ، وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا وَقَالَ: رَأَيْتُهُ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ وَشَهِدَ الْآخَرُ وَقَالَ: رَأَيْتُهُ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ كَذَا وَهُوَ مُنْكِرٌ لَا تُقْبَلُ، وَلَكِنْ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ اتَّفَقَا عَلَى وُجُودِ الصَّلَاةِ مِنْهُ بِجَمَاعَةٍ فِي الْمَسْجِدِ، لَكِنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي الْمَسْجِدِ، وَذَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْمَكَانِ لَا نَفْسَ الْفِعْلِ، وَهُوَ الصَّلَاةُ، فَقَدْ اجْتَمَعَ شَاهِدَانِ عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ حَقِيقَةً، لَكِنْ تُعْتَبَرُ شَهَادَتُهُمَا فِي الْجَبْرِ عَلَى الْإِسْلَامِ، لَا فِي الْقَتْلِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَ مُتَّحِدًا حَقِيقَةً، فَهُوَ مُخْتَلِفٌ صُورَةً لِاخْتِلَافِ مَحَلِّ الْفِعْلِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً فِي الْقَتْلِ وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْحُكْمُ بِالْإِسْلَامِ مِنْ طَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ فَإِنَّ الصَّبِيَّ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ عَقَلَ أَوْ لَمْ يَعْقِلْ مَا لَمْ يُسْلِمْ بِنَفْسِهِ إذَا عَقَلَ، وَيُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِلدَّارِ أَيْضًا، وَالْجُمْلَةُ فِيهِ: أَنَّ الصَّبِيَّ يَتْبَعُ أَبَوَيْهِ فِي الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ، وَلَا عِبْرَةَ بِالدَّارِ مَعَ وُجُودِ الْأَبَوَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّهُ لابد لَهُ مِنْ دِينٍ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُهُ، وَالصَّبِيُّ لَا يَهْتَمُّ لِذَلِكَ إمَّا لِعَدَمِ عَقْلِهِ، وَإِمَّا لِقُصُورِهِ، فلابد وَأَنْ يُجْعَلَ تَبَعًا لِغَيْرِهِ، وَجَعْلُهُ تَبَعًا لِلْأَبَوَيْنِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ تَوَلَّدَ مِنْهُمَا وَإِنَّمَا الدَّارُ مُنْشَأٌ، وَعِنْدَ انْعِدَامِهِمَا فِي الدَّارِ الَّتِي فِيهَا الصَّبِيُّ تَنْتَقِلُ التَّبَعِيَّةُ إلَى الدَّارِ؛ لِأَنَّ الدَّارَ تَسْتَتْبِعُ الصَّبِيَّ فِي الْإِسْلَامِ فِي الْجُمْلَةِ كَاللَّقِيطِ، فَإِذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ، فَالْوَلَدُ يَتْبَعُ الْمُسْلِمَ؛ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي جِهَةِ التَّبَعِيَّةِ، وَهِيَ التَّوَلُّدُ وَالتَّفَرُّعُ، فَيُرَجَّحُ الْمُسْلِمُ بِالْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا كِتَابِيًّا، وَالْآخَرُ مَجُوسِيًّا، فَالْوَلَدُ كِتَابِيٌّ؛ لِأَنَّ الْكِتَابِيَّ إلَى أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ أَقْرَبُ، فَكَانَ الْإِسْلَامُ مِنْهُ أَرْجَى وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ: إذَا سُبِيَ الصَّبِيُّ، وَأُخْرِجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ،.
فَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: إمَّا أَنْ سُبِيَ مَعَ أَحَدِهِمَا، وَإِمَّا أَنْ سُبِيَ مَعَ أَحَدِهِمَا، وَإِمَّا أَنْ سُبِيَ وَحْدَهُ فَإِنْ سُبِيَ مَعَ أَبَوَيْهِ فَمَا دَامَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَهُوَ عَلَى دِينِ أَبَوَيْهِ، حَتَّى لَوْ مَاتَ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَهَذَا ظَاهِرٌ وَكَذَا إذَا سُبِيَ مَعَ أَحَدِهِمَا وَكَذَلِكَ إذَا خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَمَعَهُ أَبَوَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا لِمَا بَيَّنَّا، فَإِنْ مَاتَ الْأَبَوَانِ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ عَلَى دِينِهِمَا حَتَّى يُسْلِمَ بِنَفْسِهِ، وَلَا تَنْقَطِعُ تَبَعِيَّةُ الْأَبَوَيْنِ بِمَوْتِهِمَا؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الْأَصْلِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِبَقَاءِ الْحُكْمِ فِي التَّبَعِ، وَإِنْ أُخْرِجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدُهُمَا فَهُوَ مُسْلِمٌ؛ لِأَنَّ التَّبَعِيَّةَ انْتَقَلَتْ إلَى الدَّارِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَلَوْ أَسْلَمَ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَهُوَ مُسْلِمٌ تَبَعًا لَهُ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ خَيْرَ الْأَبَوَيْنِ دِينًا لِمَا بَيَّنَّا، وَكَذَا إذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ سُبِيَ الصَّبِيُّ بَعْدَهُ وَأُدْخِلَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَهُوَ مُسْلِمٌ تَبَعًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَهُمَا دَارٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ تَبَعِيَّةَ الدَّارِ لَا تُعْتَبَرُ مَعَ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا.
فَأَمَّا قَبْلَ الْإِدْخَالِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا يَكُونُ مُسْلِمًا؛ لِأَنَّهُمَا فِي دَارَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَاخْتِلَافُ الدَّارِ يَمْنَعُ التَّبَعِيَّةَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ ثُمَّ إنَّمَا تُعْتَبَرُ تَبَعِيَّةُ الْأَبَوَيْنِ وَالدَّارِ إذَا لَمْ يُسْلِمْ بِنَفْسِهِ وَهُوَ يَعْقِلُ الْإِسْلَامَ، فَأَمَّا إذَا أَسْلَمَ وَهُوَ يَعْقِلُ الْإِسْلَامَ فَلَا تُعْتَبَرُ التَّبَعِيَّةُ، وَيَصِحُّ إسْلَامُهُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- لَا يَصِحُّ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ» أَخْبَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ الصَّبِيَّ مَرْفُوعُ الْقَلَمِ وَالْفِقْهُ مُسْتَنْبَطٌ مِنْهُ، وَهُوَ أَنَّ الصَّبِيَّ لَوْ صَحَّ إسْلَامُهُ إمَّا أَنْ يَصِحَّ فَرْضًا، وَإِمَّا أَنْ يَصِحَّ نَفْلًا وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّنَفُّلَ بِالْإِسْلَامِ مُحَالٌ، وَالْفَرْضِيَّةُ بِخِطَابِ الشَّرْعِ، وَالْقَلَمُ عَنْهُ مَرْفُوعٌ، وَلِأَنَّ صِحَّةَ الْإِسْلَامِ مِنْ الْأَحْكَامِ الضَّارَّةِ، فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِحِرْمَانِ الْمِيرَاثِ وَالنَّفَقَةِ، وَوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ.
وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ، وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ طَلَاقُهُ وَعِتَاقُهُ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الصَّوْمُ وَالصَّلَاةُ، فَلَا يَصِحُّ إسْلَامُهُ.
(وَلَنَا) أَنَّهُ آمَنَ بِاَللَّهِ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَنْ غَيْبٍ فَيَصِحُّ إيمَانُهُ كَالْبَالِغِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِيمَانَ عِبَارَةٌ عَنْ التَّصْدِيقِ لُغَةً وَشَرْعًا، وَهُوَ تَصْدِيقُ اللَّهِ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فِي جَمِيعِ مَا أَنْزَلَ عَلَى رُسُلِهِ، أَوْ تَصْدِيقُ رُسُلِهِ فِي جَمِيعِ مَا جَاءُوا بِهِ عَنْ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ مِنْهُ لِوُجُودِ دَلِيلِهِ، وَهُوَ إقْرَارُ الْعَاقِلِ، وَخُصُوصًا عَنْ طَوْعٍ، فَتُرَتَّبُ عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ؛ لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى وُجُودِ الْإِيمَانِ حَقِيقَةً قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَرِثُ الْمُؤْمِنُ الْكَافِرَ، وَلَا الْكَافِرُ الْمُؤْمِنَ» وَقَوْلُهُ: إنَّهُ مَرْفُوعُ الْقَلَمِ قُلْنَا: نَعَمْ.
فِي الْفُرُوعِ الشَّرْعِيَّةِ فَأَمَّا فِي الْأُصُولِ الْعَقْلِيَّةِ فَمَمْنُوعٌ، وَوُجُوبُ الْإِيمَانِ مِنْ الْأَحْكَامِ الْعَقْلِيَّةِ، فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ عَاقِلٍ وَالْحَدِيثُ يُحْمَلُ عَلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ، وَبِهِ نَقُولُ وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.
وَأَمَّا أَحْكَامُ الْإِيمَانِ فَنَقُولُ- وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُوَفِّقُ لِلْإِيمَانِ- حُكْمَانِ: أَحَدُهُمَا يَرْجِعُ إلَى الْآخِرَةِ، وَالثَّانِي يَرْجِعُ إلَى الدُّنْيَا، أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْآخِرَةِ فَكَيْنُونَةُ الْمُؤْمِنِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إذَا خَتَمَ عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الدُّنْيَا فَعِصْمَةُ النَّفْسِ وَالْمَالِ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوهَا، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا» إلَّا أَنَّ عِصْمَةَ النَّفْسِ تَثْبُتُ مَقْصُودَةً، وَعِصْمَةُ الْمَالِ تَثْبُتُ تَابِعَةً لِعِصْمَةِ النَّفْسِ، إذْ النَّفْسُ أَصْلٌ فِي التَّخَلُّقِ، وَالْمَالُ خُلِقَ بَذْلُهُ لِلنَّفْسِ اسْتِبْقَاءً لَهَا، فَمَتَى ثَبَتَتْ عِصْمَةُ النَّفْسِ ثَبَتَتْ عِصْمَةُ الْمَالِ، تَبَعًا إلَّا إذَا وُجِدَ الْقَاطِعُ لِلتَّبَعِيَّةِ عَلَى مَا نَذْكُرُ فَعَلَى هَذَا إذَا أَسْلَمَ أَهْلُ بَلْدَةٍ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ حَرُمَ قَتْلُهُمْ، وَلَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ عَلَى أَمْوَالِهِمْ عَلَى مَا قُلْنَا وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَسْلَمَ عَلَى مَالٍ فَهُوَ لَهُ».
وَلَوْ أَسْلَمَ حَرْبِيٌّ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا فَقَتَلَهُ مُسْلِمٌ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إلَّا الْكَفَّارَةُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ عَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي الْخَطَأِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- عَلَيْهِ الدِّيَةُ مَعَ الْكَفَّارَةِ فِي الْخَطَأِ، وَالْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ وَاحْتَجَّا بِالْعُمُومَات الْوَارِدَةِ فِي بَابِ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مُؤْمِنٍ قُتِلَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ.
(وَلَنَا) قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} أَوْجَبَ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الْكَفَّارَةَ وَجَعَلَهَا كُلَّ مُوجِبِ قَتْلِ الْمُؤْمِنِ الَّذِي هُوَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَنَا؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ جَزَاءً، وَالْجَزَاءُ يُنْبِئُ عَنْ الْكِفَايَةِ، فَاقْتَضَى وُقُوعَ الْكِفَايَةِ بِهَا عَمَّا سِوَاهَا مِنْ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ جَمِيعًا، وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا لِحِكْمَةِ الْحَيَاةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} وَالْحَاجَةُ إلَى الْإِحْيَاءِ عِنْدَ قَصْدِ الْقَتْلِ لِعَدَاوَةٍ حَامِلَةٍ عَلَيْهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا عِنْدَ الْمُخَالَطَةِ، وَلَوْ لَمْ تُوجَدْ هَاهُنَا وَعَلَى هَذَا إذَا أَسْلَمَ وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا حَتَّى ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ، فَمَا كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ الْمَقْتُولِ فَهُوَ لَهُ، وَلَا يَكُونُ فَيْئًا إلَّا عَبْدًا يُقَاتِلُ فَإِنَّهُ يَكُون فَيْئًا؛ لِأَنَّ نَفْسَهُ اسْتَفَادَتْ الْعِصْمَةَ بِالْإِسْلَامِ، وَمَالُهُ الَّذِي فِي يَدِهِ تَابِعٌ لَهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَكَانَ مَعْصُومًا تَبَعًا لِعِصْمَةِ النَّفْسِ، إلَّا عَبْدًا يُقَاتِلُ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَاتَلَ فَقَدْ خَرَجَ مِنْ يَدِ الْمَوْلَى، فَلَمْ يَبْقَ تَبَعًا لَهُ، فَانْقَطَعَتْ الْعِصْمَةُ لِانْقِطَاعِ التَّبَعِيَّةِ، فَيَكُون مَحَلًّا لِلتَّمَلُّكِ بِالِاسْتِيلَاءِ.
وَكَذَلِكَ مَا كَانَ فِي يَدِ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ وَدِيعَةً لَهُ فَهُوَ لَهُ، وَلَا يَكُونُ فَيْئًا؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُودِعِ يَدُهُ مِنْ وَجْهٍ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَحْفَظُ الْوَدِيعَةَ لَهُ، وَيَدُ نَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْصُومٌ فَكَانَ مَا فِي يَدِهِ مَعْصُومًا فَلَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلتَّمَلُّكِ وَأَمَّا مَا كَانَ فِي يَدِ حَرْبِيٍّ وَدِيعَةً، فَيَكُونُ فَيْئًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَعِنْدَهُمَا يَكُونُ لَهُ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُودِعِ يَدُهُ، فَكَانَ مَعْصُومًا وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَحْفَظُ لَهُ تَكُونُ يَدُهُ فَيَكُونُ تَبَعًا لَهُ، فَيَكُونُ مَعْصُومًا، وَمِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ لَا يَكُونُ مَعْصُومًا؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْحَرْبِيِّ غَيْرُ مَعْصُومَةٍ، فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي الْعِصْمَةِ، فَلَا تَثْبُتُ الْعِصْمَةُ مَعَ الشَّكِّ، وَكَذَا عَقَارُهُ يَكُونُ فَيْئًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ هُوَ وَالْمَنْقُولُ سَوَاءٌ وَالصَّحِيحُ قَوْلُهُمَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِحَسَبِ مَشِيئَتِهِ يَكُونُ فِي يَدِهِ، فَيَكُونُ تَبَعًا لَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُحْصَنٌ مَحْفُوظٌ بِنَفْسِهِ لَيْسَ فِي يَدِهِ، فَلَا يَكُونُ تَبَعًا لَهُ، فَلَا تَثْبُتُ الْعِصْمَةُ مَعَ الشَّكِّ وَأَمَّا أَوْلَادُهُ الصِّغَارُ فَأَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ تَبَعًا لَهُ، وَأَوْلَادُهُ الْكِبَارُ وَامْرَأَتُهُ يَكُونُونَ فَيْئًا؛ لِأَنَّهُمْ فِي حُكْمِ أَنْفُسِهِمْ لِانْعِدَامِ التَّبَعِيَّةِ.
وَأَمَّا الْوَلَدُ الَّذِي فِي الْبَطْنِ فَهُوَ مُسْلِمٌ تَبَعًا لِأَبِيهِ وَرَقِيقٌ تَبَعًا لِأُمِّهِ، وَفِيهِ إشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا إنْشَاءُ الرِّقِّ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَأَنَّهُ مَمْنُوعٌ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُمْتَنِعَ إنْشَاءُ الرِّقِّ عَلَى مَنْ هُوَ مُسْلِمٌ حَقِيقَةً، لَا عَلَى مَنْ لَهُ حُكْمُ الْوُجُودِ، وَالْإِسْلَامُ شَرْعًا، هَذَا إذَا أَسْلَمَ وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا، فَظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ، فَلَوْ أَسْلَمَ وَهَاجَرَ إلَيْنَا ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ.
أَمَّا أَمْوَالُهُ فَمَا كَانَ فِي يَدِ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ وَدِيعَةً فَهُوَ لَهُ، وَلَا يَكُونُ فَيْئًا لِمَا ذَكَرْنَا، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ فَيْءٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَيْضًا وَقِيلَ مَا كَانَ فِي يَدِ حَرْبِيٍّ وَدِيعَةً فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا.
وَأَمَّا أَوْلَادُهُ الصِّغَارُ فَيُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِأَبِيهِمْ، وَلَا يُسْتَرَقُّونَ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَمْنَعُ إنْشَاءَ الرِّقِّ إلَّا رِقًّا ثَبَتَ حُكْمًا بِأَنْ كَانَ الْوَلَدُ فِي بَطْنِ الْأُمِّ، وَأَوْلَادُهُ الْكِبَارُ فَيْءٌ؛ لِأَنَّهُمْ فِي حُكْمِ أَنْفُسِهِمْ، فَلَا يَكُونُونَ مُسْلِمِينَ بِإِسْلَامِ أَبِيهِمْ.
وَكَذَلِكَ زَوْجَتُهُ وَالْوَلَدُ الَّذِي فِي الْبَطْنِ يَكُونُ مُسْلِمًا تَبَعًا لِأَبِيهِ، وَرَقِيقًا تَبَعًا لِأُمِّهِ، وَلَوْ دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَ الْإِسْلَامِ ثُمَّ أَسْلَمَ، ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ، فَجَمِيعُ مَالِهِ وَأَوْلَادِهِ الصِّغَارِ، وَالْكِبَارِ، وَامْرَأَتِهِ، وَمَا فِي بَطْنِهَا فَيْءٌ، لِمَا لَمْ يُسْلِمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ حَتَّى خَرَجَ إلَيْنَا لَمْ تَثْبُتْ الْعِصْمَةُ لِمَالِهِ؛ لِانْعِدَامِ عِصْمَةِ النَّفْسِ.
فَبَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ صَارَتْ مَعْصُومَةً، لَكِنْ بَعْدَ تَبَايُنِ الدَّارَيْنِ، وَأَنَّهُ يُمْنَعُ ثُبُوتَ التَّبَعِيَّةِ وَلَوْ دَخَلَ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ دَارَ الْحَرْبِ فَأَصَابَ هُنَاكَ مَالًا، ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ فَحُكْمُهُ وَحُكْمُ الَّذِي أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا سَوَاءٌ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْأَمَانُ فَنَقُولُ: الْأَمَانُ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ: أَمَانٌ مُؤَقَّتٌ، وَأَمَانٌ مُؤَبَّدٌ أَمَّا الْمُؤَقَّتُ فَنَوْعَانِ أَيْضًا: أَحَدُهُمَا الْأَمَانُ الْمَعْرُوفُ، وَهُوَ أَنْ يُحَاصِرَ الْغُزَاةُ مَدِينَةً أَوْ حِصْنًا مِنْ حُصُونِ الْكَفَرَةِ، فَيَسْتَأْمِنُهُمْ الْكُفَّارُ فَيُؤَمِّنُوهُمْ.
وَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ رُكْنِ الْأَمَانِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْأَمَانِ، وَفِي بَيَانِ صِفَتِهِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَبْطُلُ بِهِ الْأَمَانُ.
فَأَمَّا رُكْنُهُ فَهُوَ اللَّفْظُ الدَّالُ عَلَى الْأَمَانِ، نَحْوُ قَوْلِ الْمُقَاتِلِ: أَمَّنْتُكُمْ أَوْ: أَنْتُمْ آمِنُونَ أَوْ: أَعْطَيْتُكُمْ الْأَمَانَ وَمَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ: مِنْهَا أَنْ يَكُونَ فِي حَالٍ يَكُونُ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ، وَبِالْكَفَرَةِ قُوَّةٌ؛ لِأَنَّ الْقِتَالَ فَرْضٌ، وَالْأَمَانُ يَتَضَمَّنُ تَحْرِيمَ الْقِتَالِ، فَيَتَنَاقَضُ.
إلَّا إذَا كَانَ فِي حَالِ ضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ وَقُوَّةِ الْكَفَرَةِ؛ لِأَنَّهُ إذْ ذَاكَ يَكُونُ قِتَالًا مَعْنًى؛ لِوُقُوعِهِ وَسِيلَةً إلَى الِاسْتِعْدَادِ لِلْقِتَالِ، فَلَا يُؤَدِّي إلَى التَّنَاقُضِ.
وَمِنْهَا الْعَقْلُ فَلَا يَجُوزُ أَمَانُ الْمَجْنُونِ، وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ شَرْطُ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ، وَمِنْهَا الْبُلُوغُ وَسَلَامَةُ الْعَقْلِ عَنْ الْآفَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ- لَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى إنَّ الصَّبِيَّ الْمُرَاهِقَ الَّذِي يَعْقِلُ الْإِسْلَامَ، وَالْبَالِغَ الْمُخْتَلِطَ الْعَقْلِ إذَا أَمَّنَ لَا يَصِحُّ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَصِحُّ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ أَهْلِيَّةِ الْأَمَانِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَهْلِيَّةِ الْإِيمَانِ، وَالصَّبِيُّ الَّذِي يَعْقِلُ الْإِسْلَامَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ فَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْأَمَانِ كَالْبَالِغِ.
(وَلَنَا) أَنَّ الصَّبِيَّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ حُكْمِ الْأَمَانِ، فَلَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْأَمَانِ وَهَذَا لِأَنَّ حُكْمَ الْأَمَانِ حُرْمَةُ الْقِتَالِ، وَخِطَابُ التَّحْرِيمِ لَا يَتَنَاوَلُهُ، وَلِأَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْأَمَانِ أَنْ يَكُونَ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ وَبِالْكَفَرَةِ قُوَّةٌ، وَهَذِهِ حَالَةٌ خَفِيَّةٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهَا إلَّا بِالتَّأَمُّلِ وَالنَّظَرِ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ مِنْ الصَّبِيِّ لِاشْتِغَالِهِ بِاللَّهْوِ وَاللَّعِبِ، وَمِنْهَا الْإِسْلَامُ فَلَا يَصِحُّ أَمَانُ الْكَافِرِ، وَإِنْ كَانَ يُقَاتِلُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا تُؤْمَنُ خِيَانَتُهُ، وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُتَّهَمًا فَلَا يَدْرِي أَنَّهُ بَنَى أَمَانَهُ عَلَى مُرَاعَاةِ مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ التَّفَرُّقِ عَنْ حَالِ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ أَمْ لَا، فَيَقَعُ الشَّكُّ فِي وُجُودِ شَرْطِ الصِّحَّةِ، فَلَا يَصِحُّ مَعَ الشَّكِّ.
وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْأَمَانِ، فَيَصِحُّ أَمَانُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ فِي الْقِتَالِ بِالْإِجْمَاعِ، وَهَلْ يَصِحُّ أَمَانُ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَنْ الْقِتَالِ؟ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ- عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ- وَأَبُو يُوسُفَ- رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَصِحُّ وَقَالَ مُحَمَّدٌ- رَحِمَهُ اللَّهُ: يَصِحُّ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ» وَالذِّمَّةُ الْعَهْدُ، وَالْأَمَانُ نَوْعُ عَهْدٍ، وَالْعَبْدُ الْمُسْلِمُ أَدْنَى الْمُسْلِمِينَ، فَيَتَنَاوَلُهُ الْحَدِيثُ وَلِأَنَّ حَجْرَ الْمَوْلَى يَعْمَلُ فِي التَّصَرُّفَاتِ، الضَّارَّةِ دُونَ النَّافِعَةِ، بَلْ هُوَ فِي التَّصَرُّفَاتِ النَّافِعَةِ غَيْرُ مَحْجُورٍ كَقَبُولِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ، وَلَا مَضَرَّةَ لِلْمَوْلَى فِي أَمَانِ الْعَبْدِ بِتَعْطِيلِ مَنَافِعِهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَأَدَّى فِي زَمَانٍ قَلِيلٍ، بَلْ لَهُ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ، فَلَا يَظْهَرُ انْحِجَارُهُ عَنْهُ، فَأَشْبَهَ الْمَأْذُونَ بِالْقِتَالِ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَمَانُ أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِأَنَّ الْقِتَالَ فَرْضٌ وَالْأَمَانُ يُحَرِّمُ الْقِتَالَ، إلَّا إذَا وَقَعَ فِي حَالٍ يَكُونُ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ وَبِالْكَفَرَةِ قُوَّةٌ، لِوُقُوعِهِ وَسِيلَةً إلَى الِاسْتِعْدَادِ لِلْقِتَالِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، فَيَكُونُ قِتَالًا مَعْنًى إذْ الْوَسِيلَةُ إلَى الشَّيْءِ حُكْمُهَا حُكْمُ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَهَذِهِ حَالَةٌ لَا تُعْرَفُ إلَّا بِالتَّأَمُّلِ وَالنَّظَرِ فِي حَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي قُوَّتِهِمْ وَضَعْفِهِمْ، وَالْعَبْدُ الْمَحْجُورُ لِاشْتِغَالِهِ بِخِدْمَةِ الْمَوْلَى لَا يَقِفُ عَلَيْهِمَا، فَكَانَ أَمَانُهُ تَرْكًا لِلْقِتَالِ الْمَفْرُوضِ صُورَةً وَمَعْنًى، فَلَا يَجُوزُ، فَبِهَذَا فَارَقَ الْمَأْذُونَ؛ لِأَنَّ الْمَأْذُونَ بِالْقِتَالِ يَقِفُ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ، فَيَقَعُ أَمَانُهُ وَسِيلَةً إلَى الْقِتَالِ، فَكَانَ إقَامَةً لِلْفَرْضِ مَعْنًى فَهُوَ الْفَرْقُ.
(وَأَمَّا) الْحَدِيثُ فَلَا يَتَنَاوَلُ الْمَحْجُورَ؛ لِأَنَّ الْأَدْنَى إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الدَّنَاءَةِ، وَهِيَ الْخَسَاسَةُ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الدُّنُوِّ، وَهُوَ الْقُرْبُ وَالْأَوَّلُ لَيْسَ بِمُرَادٍ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ يَتَنَاوَلُ الْمُسْلِمِينَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ» وَلَا خَسَاسَةَ مَعَ الْإِسْلَامِ وَالثَّانِي لَا يَتَنَاوَلُ الْمَحْجُورَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ فِي صَفِّ الْقِتَالِ، فَلَا يَكُونُ أَقْرَبَ إلَى الْكَفَرَةِ وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.
وَكَذَلِكَ الذُّكُورَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ، فَيَصِحُّ أَمَانُ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهَا بِمَا مَعَهَا مِنْ الْعَقْلِ لَا تَعْجِزُ عَنْ الْوُقُوفِ عَلَى حَالِ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَتَنَا زَيْنَبَ بِنْتَ النَّبِيِّ الْمُكَرَّمِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «أَمَّنَتْ زَوْجَهَا أَبَا الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَانَهَا» وَكَذَلِكَ السَّلَامَةُ عَنْ الْعَمَى، وَالزَّمَانَةِ وَالْمَرَضِ، لَيْسَتْ بِشَرْطٍ، فَيَصِحُّ أَمَانُ الْأَعْمَى وَالزَّمِنِ وَالْمَرِيضِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي صِحَّةِ الْأَمَانِ صُدُورُهُ عَنْ رَأْيٍ وَنَظَرٍ فِي الْأَحْوَالِ الْخَفِيَّةِ مِنْ الضَّعْفِ وَالْقُوَّةِ، وَهَذِهِ الْعَوَارِضُ لَا تَقْدَحُ فِيهِ، وَلَا يَجُوزُ أَمَانُ التَّاجِرِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَالْأَسِيرِ فِيهَا، وَالْحَرْبِيِّ الَّذِي أَسْلَمَ هُنَاكَ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَقِفُونَ عَلَى حَالِ الْغُزَاةِ مِنْ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، فَلَا يَعْرِفُونَ لِلْأَمَانِ مَصْلَحَةً، وَلِأَنَّهُمْ مُتَّهَمُونَ فِي حَقِّ الْغُزَاةِ؛ لِكَوْنِهِمْ مَقْهُورِينَ فِي أَيْدِي الْكَفَرَةِ، وَكَذَلِكَ الْجَمَاعَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ، فَيَصِحُّ أَمَانُ الْوَاحِدِ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ» وَلِأَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى حَالَةِ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ لَا يَقِفُ عَلَى رَأْيِ الْجَمَاعَةِ، فَيَصِحُّ مِنْ الْوَاحِدِ وَسَوَاءٌ أَمَّنَ جَمَاعَةً كَثِيرَةً أَوْ قَلِيلَةً، أَوْ أَهْلَ مِصْرٍ أَوْ قَرْيَةٍ، فَذَلِكَ جَائِزٌ.
وَأَمَّا حُكْمُ الْأَمَانِ، فَهُوَ ثُبُوتُ الْأَمْنِ لِلْكَفَرَةِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْأَمَانِ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَمَّنْتُ فَثَبَتَ الْأَمْنُ لَهُمْ عَنْ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَالِاسْتِغْنَام، فَيَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَتْلُ رِجَالِهِمْ، وَسَبْيُ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ، وَاسْتِغْنَامُ أَمْوَالِهِمْ وَأَمَّا صِفَتُهُ فَهُوَ أَنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ، حَتَّى لَوْ رَأَى الْإِمَامُ الْمَصْلَحَةَ فِي النَّقْضِ يَنْقُضُ؛ لِأَنَّ جَوَازَهُ مَعَ أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ تَرْكَ الْقِتَالِ الْمَفْرُوضِ، كَانَ لِلْمَصْلَحَةِ، فَإِذَا صَارَتْ الْمَصْلَحَةُ فِي النَّقْضِ نَقَضَ.
وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُنْتَقَضُ بِهِ الْأَمَانُ فَالْأَمْرُ فِيهِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ، إمَّا أَنْ كَانَ الْأَمَانُ مُطْلَقًا، وَإِمَّا أَنْ كَانَ مُؤَقَّتًا إلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ فَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا فَانْتِقَاضُهُ يَكُونُ بِطَرِيقَيْنِ، أَحَدُهُمَا: نَقْضُ الْإِمَامِ، فَإِذَا نَقَضَ الْإِمَامُ انْتَقَضَ، لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُخْبِرَهُمْ بِالنَّقْضِ، ثُمَّ يُقَاتِلَهُمْ لِئَلَّا يَكُونَ مِنْهُمْ غَدْرٌ فِي الْعَهْدِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَجِيءَ أَهْلُ الْحِصْنِ بِالْأَمَانِ فَيَنْقُضَ، وَإِذَا جَاءُوا الْإِمَامَ بِالْأَمَانِ يَنْبَغِي أَنْ يَدْعُوَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَبَوْا فَإِلَى الذِّمَّةِ، فَإِنْ أَبَوْا رَدَّهُمْ إلَى مَأْمَنِهِمْ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ احْتِرَازًا عَنْ الْغَدْرِ، فَإِنْ أَبَوْا الْإِسْلَامَ وَالْجِزْيَةَ، وَأَبَوْا أَنْ يَلْحَقُوا بِمَأْمَنِهِمْ، فَإِنَّ الْإِمَامَ يُؤَجِّلُهُمْ عَلَى مَا يَرَى فَإِنْ رَجَعُوا إلَى مَأْمَنِهِمْ فِي الْأَجَلِ الْمَضْرُوبِ، وَإِلَّا صَارُوا ذِمَّةً لَا يُمَكَّنُونَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَرْجِعُوا إلَى مَأْمَنِهِمْ؛ لِأَنَّ مَقَامَهُمْ بَعْدَ الْأَجَلِ الْمَضْرُوبِ الْتِزَامُ الذِّمَّةِ دَلَالَةً، وَإِنْ كَانَ الْأَمَانُ مُؤَقَّتًا إلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ يَنْتَهِي بِمُضِيِّ الْوَقْتِ مِنْ غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى النَّقْضِ، وَلَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ إلَّا إذَا دَخَلَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ دَارَ الْإِسْلَامِ، فَمَضَى الْوَقْتُ، وَهُوَ فِيهِ، فَهُوَ آمِنٌ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى مَأْمَنِهِ، وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.
هَذَا إذَا حَاصَرَ الْغُزَاةُ مَدِينَةً أَوْ حِصْنًا مِنْ حُصُونِ الْكَفَرَةِ، فَجَاءُوا فَاسْتَأْمَنُوهُمْ، فَأَمَّا إذَا اسْتَنْزَلُوهُمْ عَنْ الْحُكْمِ فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ.
(إمَّا) أَنْ اسْتَنْزَلُوهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَإِمَّا أَنْ اسْتَنْزَلُوهُمْ عَلَى حُكْمِ الْعِبَادِ، بِأَنْ اسْتَنْزَلُوهُمْ عَلَى حُكْمِ رَجُلٍ فَإِنْ اسْتَنْزَلُوهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- جَازَ إنْزَالُهُمْ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ.
وَالْخِيَارُ إلَى الْإِمَامِ إنْ شَاءَ قَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ وَسَبَى نِسَاءَهُمْ وَذَرَارِيَّهُمْ، وَإِنْ شَاءَ سَبَى الْكُلَّ، وَإِنْ شَاءَ جَعَلَهُمْ ذِمَّةَ مُقَاتَلَتِهِمْ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ الْإِنْزَالُ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُمْ وَاسْتِرْقَاقُهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ يُدْعَوْنَ إلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَبَوْا جُعِلُوا ذِمَّةً وَاحْتَجَّ مُحَمَّدٌ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي وَصَايَا الْأُمَرَاءِ عِنْدَ بَعْثِ الْجَيْشِ «وَإِذَا حَاصَرْتُمْ مَدِينَةً أَوْ حِصْنًا، فَإِنْ أَرَادُوا أَنْ تُنْزِلُوهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ مَا حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمْ» نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْإِنْزَالِ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَبَّهَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- غَيْرُ مَعْلُومٍ، فَكَانَ الْإِنْزَالُ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْإِمَامِ قَضَاءً بِالْمَجْهُولِ، وَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ.
وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الْإِنْزَالُ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فَيُدْعَوْنَ إلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَجَابُوا فَهُمْ أَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ لَا سَبِيلَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَإِنْ أَبَوْا لَا يَقْتُلُهُمْ الْإِمَامُ وَلَا يَسْتَرِقُّهُمْ، وَلَكِنْ يَجْعَلُهُمْ ذِمَّةً، فَإِنْ طَلَبُوا مِنْ الْإِمَامِ أَنْ يُبْلِغَهُمْ مَأْمَنَهُمْ لَمْ يُجِبْهُمْ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ رَدَّهُمْ إلَى مَأْمَنِهِمْ لَصَارُوا حَرْبًا لَنَا.
(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الِاسْتِنْزَالَ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ الِاسْتِنْزَالُ عَلَى الْحُكْمِ الْمَشْرُوعِ لِلْمُسْلِمِينَ فِي حَقِّ الْكَفَرَةِ وَالْقَتْلُ وَالسَّبْيُ وَعَقْدُ الذِّمَّةِ كُلُّ ذَلِكَ حُكْمٌ مَشْرُوعٌ فِي حَقِّهِمْ، فَجَازَ الْإِنْزَالُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إنَّ ذَلِكَ مَجْهُولٌ لَا يَدْرِي الْمُنْزَلَ عَلَيْهِ، أَيُّ حُكْمٍ هُوَ؟.
قُلْنَا: نَعَمْ لَكِنْ يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَيْهِ وَالْعِلْمُ بِهِ؛ لِوُجُودِ سَبَبِ الْعِلْمِ، وَهُوَ الِاخْتِيَارُ وَهَذَا لَا يَكْفِي لِجَوَازِ الْإِنْزَالِ عَلَيْهِ، كَمَا قُلْنَا فِي الْكَفَّارَاتِ: إنَّ الْوَاجِبَ أَحَدُ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ، ثُمَّ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ وُقُوعَ تَعَلُّقِ التَّكْلِيفِ بِهِ؛ لِوُجُودِ سَبَبِ الْعِلْمِ بِهِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْكُفْرِ الْمُكَلَّفُ، كَذَا هَذَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَجُوزُ الْإِنْزَالُ عَلَى حُكْمِ الْعِبَادِ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى حُكْمِ الْعِبَادِ إنْزَالٌ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى حَقِيقَةً، إذْ الْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَ الْحُكْمِ مِنْ نَفْسِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {إنْ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ} وَلَكِنَّهُ يُظْهِرُ حُكْمَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الْمَشْرُوعَ فِي الْحَادِثَةِ، وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «لَقَدْ حَكَمْتَ بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ».
(وَأَمَّا) الْحَدِيثُ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ مَصْرُوفٌ إلَى زَمَانِ جَوَازِ وُرُودِ النَّسْخِ، وَهُوَ حَالُ حَيَاةِ النَّبِيِّ؛ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِانْعِدَامِ اسْتِقْرَارِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فِي حَيَاتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِئَلَّا يَكُونَ الْإِنْزَالُ عَلَى الْحُكْمِ الْمَنْسُوخِ عَسَى؛ لِاحْتِمَالِ النَّسْخِ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَقَدْ انْعَدَمَ هَذَا الْمَعْنَى بَعْدَ وَفَاتِهِ؛ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِخُرُوجِ الْأَحْكَامِ عَنْ احْتِمَالِ النَّسْخِ بِوَفَاتِهِ.
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِذَا جَازَ الْإِنْزَالُ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، فَالْخِيَارُ فِيهِ إلَى الْإِمَامِ، فَأَيُّمَا كَانَ أَفْضَلَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَالذِّمَّةِ فُعِلَ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ حُكْمُ اللَّهِ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الْمَشْرُوعُ لِلْمُسْلِمِينَ فِي حَقِّ الْكَفَرَةِ فَإِنْ أَسْلَمُوا قَبْلَ الِاخْتِيَارِ، فَهُمْ أَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ، لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَمْوَالِهِمْ، وَالْأَرْضُ لَهُمْ، وَهِيَ عُشْرِيَّةٍ وَكَذَلِكَ إذَا جَعَلَهُمْ ذِمَّةً فَهُمْ أَحْرَارٌ، وَيَضَعُ عَلَى أَرَاضِيهِمْ الْخَرَاجَ فَإِنْ أَسْلَمُوا قَبْلَ تَوْظِيفِ الْخَرَاجِ صَارَتْ عُشْرِيَّةٍ، هَذَا إذَا كَانَ الْإِنْزَالُ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فَأَمَّا إذَا كَانَ عَلَى حُكْمِ الْعِبَادِ بِأَنْ اسْتَنْزَلُوهُمْ عَلَى حُكْمِ رَجُلٍ فَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ (إمَّا) أَنْ اسْتَنْزَلُوهُمْ عَلَى حُكْمِ رَجُلٍ مُعَيَّنٍ، بِأَنْ قَالُوا: عَلَى حُكْمِ فُلَانٍ لِرَجُلٍ سَمَّوْهُ (وَإِمَّا) أَنْ اسْتَنْزَلُوهُمْ عَلَى حُكْمِ رَجُلٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، فَإِنْ كَانَ الِاسْتِنْزَالُ عَلَى حُكْمِ رَجُلٍ مُعَيَّنٍ فَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ، فَحَكَمَ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا، وَهُوَ رَجُلٌ عَاقِلٌ مُسْلِمٌ عَدْلٌ، غَيْرُ مَحْدُودٍ فِي قَذْفٍ، جَازَ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ لَمَّا حَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، اسْتَنْزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فَحَكَمَ سَعْدٌ أَنْ تُقْتَلَ رِجَالُهُمْ، وَتُقْسَمَ أَمْوَالُهُمْ، وَتُسْبَى نِسَاؤُهُمْ وَذَرَارِيُّهُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ حَكَمْتَ بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةً» فَقَدْ اسْتَصْوَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُكْمَهُ، حَيْثُ أَخْبَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ مَا حَكَمَ بِهِ حُكْمُ اللَّهِ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لِأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لَا يَكُونُ إلَّا صَوَابًا.
وَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِرَدِّهِمْ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَإِنْ حَكَمَ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ غَيْرُ مَشْرُوعٍ لِمَا بَيَّنَّا؛ لِأَنَّهُمْ بِالرَّدِّ يَصِيرُونَ حَرْبِيِّينَ لَنَا، وَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ عَبْدًا أَوْ صَبِيًّا لَمْ يَجُزْ حُكْمُهُ بِالْإِجْمَاعِ كَانَ فَاسِقًا، أَوْ مَحْدُودًا فِي الْقَذْفِ، لَمْ يَجُزْ حُكْمُهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجُوزُ.
(وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّ الْفَاسِقَ يَصْلُحُ قَاضِيًا، فَيَصْلُحُ حَكَمًا بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى.
(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَحْدُودَ فِي الْقَذْفِ لَا يَصْلُحُ حَكَمًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ، وَلِهَذَا لَمْ يَصْلُحْ قَاضِيًا، وَكَذَا الْفَاسِقُ لَا يَصْلُحُ حَكَمًا وَإِنْ صَلَحَ قَاضِيًا، لَكِنَّهُ لَا يَلْزَمُ قَضَاؤُهُ، وَلِهَذَا لَوْ رُفِعَتْ قَضِيَّةٌ إلَى قَاضٍ آخَرَ، إنْ شَاءَ أَمْضَاهُ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ، وَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا جَازَ حُكْمُهُ فِي الْكَفَرَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ عَلَى جِنْسِهِ، وَإِنْ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَجُلٍ يَخْتَارُونَهُ، فَاخْتَارُوا رَجُلًا فَإِنْ كَانَ مَوْضِعًا لِلْحُكْمِ جَازَ حُكْمُهُ.
وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَوْضِعٍ لِلْحُكْمِ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ حَتَّى يَخْتَارُوا رَجُلًا مَوْضِعًا لِلْحُكْمِ، فَإِنْ لَمْ يَخْتَارُوا أَبْلَغَهُمْ الْإِمَامُ مَأْمَنَهُمْ؛ لِأَنَّ النُّزُولَ كَانَ عَلَى شَرْطٍ، وَهُوَ حُكْمُ رَجُلٍ يَخْتَارُونَهُ، فَإِذَا لَمْ يَخْتَارُوا فَقَدْ بَقُوا فِي يَدِ الْإِمَامِ بِالْأَمَانِ، فَيَرُدُّهُمْ إلَى مَأْمَنِهِمْ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَرُدُّهُمْ إلَى حِصْنٍ هُوَ أَحْصَنُ مِنْ الْأَوَّلِ، وَلَا إلَى حَدٍّ يَمْتَنِعُونَ بِهِ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ إلَى الْمَأْمَنِ لِلتَّحَرُّجِ عَنْ تَوَهُّمِ الْعُذْرِ، وَأَنَّهُ يَحْصُلُ بِالرَّدِّ إلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، فَلَا ضَرُورَةَ فِي الرَّدِّ إلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَجُلٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ فَلِلْإِمَامِ أَنْ يُعَيِّنَ رَجُلًا صَالِحًا لِلْحُكْمِ فِيهِمْ، أَوْ يَحْكُمَ لِلْمُسْلِمِينَ بِنَفْسِهِ بِمَا هُوَ أَفْضَلُ لَهُمْ وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.
وَالثَّانِي، الْمُوَادَعَةُ وَهِيَ: الْمُعَاهَدَةُ وَالصُّلْحُ عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ يُقَالُ: تَوَادَعَ الْفَرِيقَانِ أَيَّ تَعَاهَدَا عَلَى أَنْ لَا يَغْزُوَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ وَالْكَلَامُ فِي الْمُوَادَعَةِ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ رُكْنِهَا، وَشَرْطِهَا، وَحُكْمِهَا، وَصِفَتِهَا، وَمَا يُنْتَقَضُ بِهِ أَمَّا رُكْنُهَا: فَهُوَ لَفْظَةُ الْمُوَادَعَةِ، أَوْ الْمُسَالَمَةِ، أَوْ الْمُصَالَحَةِ، أَوْ الْمُعَاهَدَةِ، أَوْ مَا يُؤَدِّي مَعْنَى هَذِهِ الْعِبَارَاتِ وَشَرْطُهَا الضَّرُورَةُ، وَهِيَ ضَرُورَةُ اسْتِعْدَادِ الْقِتَالِ، بِأَنْ كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ، وَبِالْكَفَرَةِ قُوَّةُ الْمُجَاوَزَةِ إلَى قَوْمٍ آخَرِينَ، فَلَا تَجُوزُ عِنْدَ عَدَمِ الضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّ الْمُوَادَعَةَ تَرْكُ الْقِتَالِ الْمَفْرُوضِ، فَلَا يَجُوزُ إلَّا فِي حَالٍ يَقَعُ وَسِيلَةً إلَى الْقِتَالِ؛ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ تَكُونُ قِتَالًا مَعْنًى قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ وَاَللَّهُ مَعَكُمْ}.
وَعِنْدَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ لَا بَأْسَ بِهِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَادَعَ أَهْلَ مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنْ تُوضَعَ الْحَرْبُ عَشْرَ سِنِينَ وَلَا يُشْتَرَطُ إذْنُ الْإِمَامِ بِالْمُوَادَعَةِ، حَتَّى لَوْ وَادَعَهُمْ الْإِمَامُ، أَوْ فَرِيقٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ جَازَتْ مُوَادَعَتُهُمْ؛ لِأَنَّ الْمُعَوَّلَ عَلَيْهِ كَوْنُ عَقْدِ الْمُوَادَعَةِ مَصْلَحَةً لِلْمُسْلِمِينَ وَقَدْ وُجِدَ.
وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْخُذَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ذَلِكَ جُعْلًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الْجِزْيَةِ، وَيُوضَعُ مَوْضِعَ الْخَرَاجِ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَطْلُبَ الْمُسْلِمُونَ الصُّلْحَ مِنْ الْكَفَرَةِ وَيُعْطُوا عَلَى ذَلِكَ مَالًا إذَا اُضْطُرُّوا إلَيْهِ؛ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} أَبَاحَ-
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لَنَا الصُّلْحَ مُطْلَقًا، فَيَجُوزُ بِبَدَلٍ أَوْ غَيْرِ بَدَلٍ، وَلِأَنَّ الصُّلْحَ عَلَى مَالٍ لِدَفْعِ شَرِّ الْكَفَرَةِ لِلْحَالِ، وَالِاسْتِعْدَادِ لِلْقِتَالِ فِي الثَّانِي مِنْ بَابِ الْمُجَاهَدَةِ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ، فَيَكُونُ جَائِزًا وَتَجُوزُ مُوَادَعَةُ الْمُرْتَدِّينَ إذَا ` غَلَبُوا عَلَى دَارٍ مِنْ دُورِ الْإِسْلَامِ، وَخِيفَ مِنْهُمْ، وَلَمْ تُؤْمَنْ غَائِلَتُهُمْ لِمَا فِيهِ مِنْ مَصْلَحَةِ دَفْعِ الشَّرِّ لِلْحَالِ، وَرَجَاءِ رُجُوعِهِمْ إلَى الْإِسْلَامِ وَتَوْبَتِهِمْ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَالٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الْجِزْيَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْ الْمُرْتَدِّينَ، فَإِنْ أَخَذَ مِنْهُمْ شَيْئًا لَا يُرَدُّ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ غَيْرُ مَعْصُومٍ.
أَلَا تَرَى أَنَّ أَمْوَالَهُمْ مَحَلٌّ لِلِاسْتِيلَاءِ كَأَمْوَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ؟ وَكَذَلِكَ الْبُغَاةُ تَجُوزُ مُوَادَعَتُهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَتْ مُوَادَعَةُ الْكَفَرَةِ؛ فَلَأَنْ تَجُوزَ مُوَادَعَةُ الْمُسْلِمِينَ أَوْلَى، وَلَكِنْ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَالٌ؛ لِأَنَّ الْمَالَ الْمَأْخُوذَ عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ، يَكُونُ فِي مَعْنَى الْجِزْيَةِ، وَلَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ إلَّا مِنْ كَافِرٍ.
(وَأَمَّا) حُكْمُ الْمُوَادَعَةِ فَهُوَ حُكْمُ الْأَمَانِ الْمَعْرُوفِ وَهُوَ أَنْ يَأْمَنَ الْمُوَادِعُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَنِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ؛ لِأَنَّهَا عَقْدُ أَمَانٍ أَيْضًا، وَلَوْ خَرَجَ قَوْمٌ مِنْ الْمُوَادَعِينَ إلَى بَلْدَةٍ أُخْرَى لَيْسَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مُوَادَعَةٌ، فَغَزَا الْمُسْلِمُونَ تِلْكَ الْبَلْدَةَ، فَهَؤُلَاءِ آمِنُونَ لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْمُوَادَعَةِ أَفَادَ الْأَمَانَ لَهُمْ فَلَا يُنْتَقَضُ بِالْخُرُوجِ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ، كَمَا فِي الْأَمَانِ الْمُؤَبَّدِ، وَهُوَ عَقْدُ الذِّمَّةِ إنَّهُ لَا يَبْطُلُ بِدُخُولِ الذِّمِّيِّ دَارَ الْحَرْبِ كَذَا هَذَا، وَكَذَلِكَ لَوْ دَخَلَ فِي دَارِ الْمُوَادَعَةِ رَجُلٌ مِنْ غَيْرِ دَرَاهِمَ بِأَمَانٍ، ثُمَّ خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ أَمَانٍ، فَهُوَ آمِنٌ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ دَارَ الْمُوَادَعِينَ بِأَمَانِهِمْ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنْ جُمْلَتِهِمْ فَلَوْ عَادَ إلَى دَارِهِ ثُمَّ دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ أَمَانٍ كَانَ فَيْئًا، لَنَا أَنْ نَقْتُلَهُ وَنَأْسِرَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ إلَى دَارِهِ فَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْمُوَادَعَةِ، فَبَطَلَ حُكْمُ الْمُوَادَعَةِ فِي حَقِّهِ فَإِذَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ، فَهَذَا حَرْبِيٌّ دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ ابْتِدَاءً بِغَيْرِ أَمَانٍ، وَلَوْ أَسَرَ وَاحِدٌ مِنْ الْمُوَادَعِينَ أَهْلَ دَارٍ أُخْرَى فَغَزَا الْمُسْلِمُونَ عَلَى تِلْكَ الدَّارِ، كَانَ فَيْئًا، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَوْ دَخَلَ إلَيْهِمْ تَاجِرٌ فَهُوَ آمِنٌ.
(وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّهُ لَمَّا أَسَرَ فَقَدْ انْقَطَعَ حُكْمُ دَارِ الْمُوَادَعَةِ فِي حَقِّهِ، وَإِذَا دَخَلَ تَاجِرًا لَمْ يَنْقَطِعْ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) صِفَةُ عَقْدِ الْمُوَادَعَةِ، فَهُوَ أَنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ مُحْتَمِلٌ لِلنَّقْضِ، فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَنْبِذَ إلَيْهِمْ؛ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} فَإِذَا وَصَلَ النَّبْذُ إلَى مَلِكِهِمْ، فَلَا بَأْسَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَغْزُوا عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْمَلِكَ يُبَلِّغُ قَوْمَهُ ظَاهِرًا إلَّا إذَا اسْتَيْقَنَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ خَبَرَ النَّبْذِ لَمْ يَبْلُغْ قَوْمَهُ، وَلَمْ يَعْلَمُوا بِهِ، فَلَا أُحِبُّ أَنْ يَغْزُوا عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ إذَا لَمْ يَبْلُغْهُمْ فَهُمْ عَلَى حُكْمِ الْأَمَانِ الْأَوَّلِ، فَكَانَ قِتَالُهُمْ مِنَّا غَدْرًا وَتَغْرِيرًا، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ النَّبْذُ مِنْ جِهَتِهِمْ بِأَنْ أَرْسَلُوا إلَيْنَا رَسُولًا بِالنَّبْذِ، وَأَخْبَرُوا الْإِمَامَ بِذَلِكَ فَلَا بَأْسَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَغْزُوا عَلَيْهِمْ، لِمَا قُلْنَا إلَّا إذَا اسْتَيْقَنَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ أَهْلَ نَاحِيَةٍ مِنْهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا بِذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا.
وَلَوْ وَادَعَ الْإِمَامُ عَلَى جَعْلٍ، أَخَذَهُ مِنْهُمْ، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَنْقُضَ فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ، فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلنَّقْضِ، وَلَكِنْ يَبْعَثُ إلَيْهِمْ بِحِصَّةِ مَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ مِنْ الْجَعْلِ الَّذِي أَخَذَهُ؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا أَعْطَوْهُ ذَلِكَ بِمُقَابَلَةِ الْأَمَانِ فِي كُلِّ الْمُدَّةِ، فَإِذَا فَاتَ بَعْضُهَا لَزِمَ الرَّدُّ بِقَدْرِ الْفَائِتِ، هَذَا إذَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى أَنْ يَكُونُوا مُسْتَبْقِينَ عَلَى أَحْكَامِ الْكُفْرِ.
(فَأَمَّا) إذَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى أَنَّهُ يُجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فَهُوَ لَازِمٌ، لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ الْوَاقِعَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَقْدُ ذِمَّةٍ، فَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْبِذَ إلَيْهِمْ وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) بَيَانُ مَا يُنْقَضُ بِهِ عَقَدُ الْمُوَادَعَةِ، فَالْجُمْلَةُ فِيهِ أَنَّ عَقْدَ الْمُوَادَعَةِ (إمَّا) أَنْ كَانَ مُطْلَقًا عَنْ الْوَقْتِ.
(وَإِمَّا) أَنْ كَانَ مُوَقَّتًا بِوَقْتٍ مَعْلُومٍ فَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا عَنْ الْوَقْتِ فَاَلَّذِي يُنْتَقَضُ بِهِ نَوْعَانِ: نَصٌّ، وَدَلَالَةٌ فَالنَّصُّ، هُوَ النَّبْذُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ صَرِيحًا.
(وَأَمَّا) الدَّلَالَةُ، فَهِيَ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُمْ مَا يَدُلُّ عَلَى النَّبْذِ، نَحْوُ أَنْ يَخْرُجَ قَوْمٌ مِنْ دَارِ الْمُوَادَعَةِ بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَيَقْطَعُوا الطَّرِيقَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ إذْنَ الْإِمَامِ بِذَلِكَ دَلَالَةُ النَّبْذِ، وَلَوْ خَرَجَ قَوْمٌ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ، فَقَطَعُوا الطَّرِيقَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً لَا مَنَعَةَ لَهُمْ، لَا يَكُونُ ذَلِكَ نَقْضًا لِلْعَهْدِ؛ لِأَنَّ قَطْعَ الطَّرِيقِ بِلَا مَنَعَةٍ لَا يَصْلُحُ دَلَالَةً لِلنَّقْضِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَصَّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَلَى النَّقْضِ لَا يُنْتَقَضُ؟ كَمَا فِي الْأَمَانِ الْمُؤَبَّدِ، وَهُوَ عَقْدُ الذِّمَّةِ.
وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً لَهُمْ مَنَعَةٌ فَخَرَجُوا بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ وَلَا إذْنِ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ، فَالْمَلِكُ وَأَهْلُ مَمْلَكَتِهِ عَلَى مُوَادَعَتِهِمْ؛ لِانْعِدَامِ دَلَالَةِ النَّقْضِ فِي حَقِّهِمْ، وَلَكِنْ يُنْتَقَضُ الْعَهْدُ فِيمَا بَيْنَ الْقُطَّاعِ، حَتَّى يُبَاحَ قَتْلُهُمْ وَاسْتِرْقَاقُهُمْ؛ لِوُجُودِ دَلِيلِ النَّقْضِ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ مُوَقَّتًا بِوَقْتٍ مَعْلُومٍ، يَنْتَهِي الْعَهْدُ بِانْتِهَاءِ الْوَقْتِ مِنْ غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى النَّبْذِ، حَتَّى كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَغْزُوا عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْمُؤَقَّتَ إلَى غَايَةٍ يَنْتَهِي بِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ مِنْ غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى النَّاقِضِ، وَلَوْ كَانَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ دَخَلَ الْإِسْلَامَ بِالْمُوَادَعَةِ الْمُؤَقَّتَةِ، فَمَضَى الْوَقْتُ وَهُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَهُوَ آمِنٌ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى مَأْمَنِهِ؛ لِأَنَّ التَّعَرُّضَ لَهُ يُوهِمُ الْغَدْرَ وَالتَّغْرِيرَ، فَيَجِبُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ مَا أَمْكَنَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) الْأَمَانُ الْمُؤَبَّدُ فَهُوَ الْمُسَمَّى بِعَقْدِ الذِّمَّةِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ رُكْنِ الْعَقْدِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْعَقْدِ، وَفِي بَيَانِ صِفَةِ الْعَقْدِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُؤْخَذُ بِهِ أَهْلُ الذِّمَّةِ، وَمَا يَتَعَرَّضُ لَهُ وَمَا لَا يَتَعَرَّضُ لَهُ.
(أَمَّا) رُكْنُ الْعَقْدِ فَهُوَ نَوْعَانِ: نَصٌّ، وَدَلَالَةٌ.
(أَمَّا) النَّصُّ فَهُوَ لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ لَفْظُ الْعَهْدِ وَالْعَقْدِ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ.
(وَأَمَّا) الدَّلَالَةُ فَهِيَ فِعْلٌ يَدُلُّ عَلَى قَبُولِ الْجِزْيَةِ نَحْوُ أَنْ يَدْخُلَ حَرْبِيٌّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ، فَإِنْ أَقَامَ بِهَا سَنَةً بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ إلَيْهِ فِي أَنْ يَخْرُجَ أَوْ يَكُونَ ذِمِّيًّا، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْحَرْبِيَّ إذَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ، يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَقَدَّمَ إلَيْهِ، فَيَضْرِبَ لَهُ مُدَّةً مَعْلُومَةً عَلَى حَسَبِ مَا يَقْتَضِي رَأْيُهُ وَيَقُولَ لَهُ: إنْ جَاوَزْتَ الْمُدَّةَ جَعَلْتُكَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَإِذَا جَاوَزَهَا صَارَ ذِمِّيًّا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ لَهُ ذَلِكَ فَلَمْ يَخْرُجْ حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ، فَقَدْ رَضِيَ بِصَيْرُورَتِهِ ذِمِّيًّا، فَإِذَا أَقَامَ سَنَةً مِنْ يَوْمِ قَالَ لَهُ الْإِمَامُ، أَخَذَ مِنْهُ الْجِزْيَةَ وَلَا يَتْرُكُهُ يَرْجِعُ إلَى وَطَنِهِ قَبْلَ ذَلِكَ.
وَإِنْ خَرَجَ بَعْدَ تَمَامِ السَّنَةِ فَلَا سَبِيلَ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَالَ الْإِمَامُ عِنْدَ الدُّخُولِ: اُدْخُلْ وَلَا تَمْكُثْ سَنَةً فَمَكَثَ سَنَةً، صَارَ ذِمِّيًّا، وَلَا يُمَكَّنُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى وَطَنِهِ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ اشْتَرَى الْمُسْتَأْمَنُ أَرْضًا خَرَاجِيَّةً، فَإِذَا وَضَعَ عَلَيْهِ الْخَرَاجَ صَارَ ذِمِّيًّا؛ لِأَنَّ وَظِيفَةَ الْخَرَّاجِ يَخْتَصُّ بِالْمُقَامِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِذَا قَبِلَهَا فَقَدْ رَضِيَ بِكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ، فَيَصِيرُ ذِمِّيًّا، وَلَوْ بَاعَهَا قَبْلَ أَنْ يَجْبِيَ خَرَاجَهَا، لَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا؛ لِأَنَّ دَلِيلَ قَبُولِ الذِّمَّةِ، وُجُوبُ الْخَرَاجِ لَا نَفْسُ الشِّرَاءِ فَمَا لَمْ يُوضَعْ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ لَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا خَرَاجِيَّةً فَزَرَعَهَا لَمْ يَصِرْ ذِمِّيًّا؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ عَلَى الْآجِرِ دُونَ الْمُسْتَأْجِرِ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى الْتِزَامِ الذِّمَّةِ إلَّا إذَا كَانَ خَرَاجًا مُقَاسَمَةً، فَإِذَا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ وَأَخَذَ الْإِمَامُ الْخَرَاجَ مِنْ الْخَارِجِ وَضَعَ عَلَيْهِ الْجِزْيَةَ، وَجَعَلَهُ ذِمِّيًّا.
وَلَوْ اشْتَرَى الْمُسْتَأْمَنُ أَرْضَ الْمُقَاسَمَةِ، وَأَجَّرَهَا مِنْ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَأَخَذَ الْإِمَامُ الْخَرَاجَ مِنْ ذَلِكَ لَا يَصِيرُ الْمُسْتَأْمَنُ ذِمِّيًّا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ نَفْسَ الشِّرَاءِ لَا يَدُلُّ عَلَى الِالْتِزَامِ، بَلْ دَلِيلُ الِالْتِزَامِ هُوَ وُجُوبُ الْخَرَاجِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَجِبْ وَلَوْ اشْتَرَى الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ أَرْضَ خَرَاجٍ فَزَرَعَهَا، فَأَخْرَجَتْ زَرْعًا، فَأَصَابَ الزَّرْعَ آفَةٌ، إنَّهُ لَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا؛ لِأَنَّهُ إذَا أَصَابَ الزَّرْعَ آفَةٌ لَمْ يَجِبْ الْخَرَاجُ، فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَزْرَعْهَا فَبَقِيَ نَفْسُ الشِّرَاءِ، وَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ دَلِيلَ قَبُولِ الذِّمَّةِ وَلَوْ وَجَبَ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ الْخَرَاجُ فِي أَقَلَّ مِنْ سَنَةٍ مُنْذُ يَوْمِ مَلَكَهَا، صَارَ ذِمِّيًّا حِينَ وُجُوبِ الْخَرَاجِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ خَرَاجُ رَأْسِهِ بَعْدَ سَنَةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ؛ لِأَنَّهُ بِوُجُوبِ خَرَاجِ الْأَرْضِ صَارَ ذِمِّيًّا كَانَ عَقْدُ الذِّمَّةِ نَصًّا، فَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ الْعَقْدِ مِنْ حِينِ وُجُوبِ الْخَرَاجِ، فَيُؤْخَذُ خَرَاجُ الرَّأْسِ بَعْدَ تَمَامِ السَّنَةِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَلَوْ تَزَوَّجَتْ الْحَرْبِيَّةُ الْمُسْتَأْمَنَةُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ذِمِّيًّا، صَارَتْ ذِمِّيَّةً وَلَوْ تَزَوَّجَ الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ذِمِّيَّةً لَمْ يَصِرْ ذِمِّيًّا.
(وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَابِعَةٌ لِزَوْجِهَا، فَإِذَا تَزَوَّجَتْ بِذِمِّيٍّ فَقَدْ رَضِيَتْ بِالْمُقَامِ فِي دَارِنَا، فَصَارَتْ ذِمِّيَّةً تَبَعًا لِزَوْجِهَا فَأَمَّا الزَّوْجُ فَلَيْسَ بِتَابِعٍ لِلْمَرْأَةِ، فَلَا يَكُونُ تَزَوُّجُهُ إيَّاهَا دَلِيلَ الرِّضَا بِالْمُقَامِ فِي دَارِنَا، فَلَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ:
(مِنْهَا) أَنْ لَا يَكُونَ الْمُعَاهَدُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ السَّيْفُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} إلَى قَوْله تَعَالَى: {فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} أَمَرَ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بِقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِتَخْلِيَةِ سَبِيلِهِمْ إلَّا عِنْدَ تَوْبَتِهِمْ، وَهِيَ الْإِسْلَامُ وَيَجُوزُ عَقْدُ الذِّمَّةِ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} إلَى قَوْله تَعَالَى: {مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} الْآيَةَ وَسَوَاءٌ كَانُوا مِنْ الْعَرَبِ، أَوْ مِنْ الْعَجَمِ؛ لِعُمُومِ النَّصِّ وَيَجُوزُ مَعَ الْمَجُوسِ؛ لِأَنَّهُمْ مُلْحَقُونَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فِي حَقِّ الْجِزْيَةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْمَجُوسِ «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» وَكَذَلِكَ فَعَلَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِسَوَادِ الْعِرَاقِ وَضَرَبَ الْجِزْيَةَ عَلَى جَمَاجِمِهِمْ، وَالْخَرَاجَ عَلَى أَرَاضِيهِمْ.
ثُمَّ وَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمُشْرِكِي الْعَجَمِ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ إنَّمَا تُرِكُوا بِالذِّمَّةِ وَقَبُولِ الْجِزْيَةِ لَا لِرَغْبَةٍ فِيمَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ، أَوْ طَمَعٍ فِي ذَلِكَ، بَلْ لِلدَّعْوَةِ إلَى الْإِسْلَامِ لِيُخَالِطُوا الْمُسْلِمِينَ، فَيَتَأَمَّلُوا فِي مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ وَشَرَائِعِهِ، وَيَنْظُرُوا فِيهَا فَيَرَوْهَا مُؤَسَّسَةً عَلَى مَا تَحْتَمِلُهُ الْعُقُولُ، وَتَقْبَلُهُ، فَيَدْعُوهُمْ ذَلِكَ إلَى الْإِسْلَامِ، فَيَرْغَبُونَ فِيهِ، فَكَانَ عَقْدُ الذِّمَّةِ لِرَجَاءِ الْإِسْلَامِ.
وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَحْصُلُ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ مَعَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ تَقْلِيدٍ وَعَادَةٍ، لَا يَعْرِفُونَ سِوَى الْعَادَةِ وَتَقْلِيدِ الْآبَاءِ، بَلْ يَعُدُّونَ مَا سِوَى ذَلِكَ سُخْرِيَةً وَجُنُونًا، فَلَا يَشْتَغِلُونَ بِالتَّأَمُّلِ وَالنَّظَرِ فِي مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ لِيَقِفُوا عَلَيْهَا فَيَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ فَتَعَيَّنَ السَّيْفُ دَاعِيًا لَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ، وَلِهَذَا لَمْ يَقْبَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ الْجِزْيَةَ، وَمُشْرِكُو الْعَجَمِ مُلْحَقُونَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فِي هَذَا الْحُكْمِ بِالنَّصِّ الَّذِي رَوَيْنَا.
(وَمِنْهَا) أَنْ لَا يَكُونَ مُرْتَدًّا فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْ الْمُرْتَدِّ أَيْضًا إلَّا الْإِسْلَامُ، أَوْ السَّيْفُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} قِيلَ: إنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الرِّدَّةِ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ، وَلِأَنَّ الْعَقْدَ فِي حَقِّ الْمُرْتَدِّ لَا يَقَعُ وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَنْتَقِلُ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ مَا عَرَفَ مَحَاسِنَهُ وَشَرَائِعَهُ الْمَحْمُودَةَ فِي الْعُقُولِ إلَّا لِسُوءِ اخْتِيَارِهِ وَشُؤْمِ طَبْعِهِ، فَيَقَعُ الْيَأْسُ عَنْ فَلَاحِهِ، فَلَا يَكُونُ عَقْدُ الذِّمَّةِ وَقَبُولُ الْجِزْيَةِ فِي حَقِّهِ وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) الصَّابِئُونَ فَيُعْقَدُ لَهُمْ عَقْدُ الذِّمَّةِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ الزَّبُورَ، وَعِنْدَهُمَا قَوْمٌ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ، فَكَانُوا فِي حُكْمِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، فَتُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ إذَا كَانُوا مِنْ الْعَجَمِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مُؤَبَّدًا فَإِنْ وَقَّتَ لَهُ وَقْتًا لَمْ يَصِحَّ عَقْدُ الذِّمَّةِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ فِي إفَادَةِ الْعِصْمَةِ كَالْخَلَفِ عَنْ عَقْدِ الْإِسْلَامِ، وَعَقْدُ الْإِسْلَامِ لَا يَصِحُّ إلَّا مُؤَبَّدًا، فَكَذَا عَقْدُ الذِّمَّةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) بَيَانُ حُكْمِ الْعَقْدِ فَنَقُولُ- وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقِ: إنَّ لِعَقْدِ الذِّمَّةِ أَحْكَامًا.
(مِنْهَا) عِصْمَةُ النَّفْسِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ} إلَى قَوْلِهِ- عَزَّ وَجَلَّ- {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} نَهَى- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- إبَاحَةَ الْقِتَالِ إلَى غَايَةِ قَبُولِ الْجِزْيَةِ، وَإِذَا انْتَهَتْ الْإِبَاحَةُ، تَثْبُتُ الْعِصْمَةُ ضَرُورَةً.
(وَمِنْهَا) عِصْمَةُ الْمَالِ؛ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِعِصْمَةِ النَّفْسِ وَعَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إنَّمَا قَبِلُوا عَقْدَ الذِّمَّةِ؛ لِتَكُونَ أَمْوَالُهُمْ كَأَمْوَالِنَا، وَدِمَاؤُهُمْ كَدِمَائِنَا.
وَالْكَلَامُ فِي وُجُوبِ الْجِزْيَةِ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ سَبَبِ وُجُوبِ الْجِزْيَةِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ، وَفِي بَيَانِ وَقْتِ الْوُجُوبِ، وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَسْقُطُ بِهِ بَعْدَ الْوُجُوبِ.
(أَمَّا) الْأَوَّلُ فَسَبَبُ وُجُوبِهَا عَقْدُ الذِّمَّةِ.
وَأَمَّا شَرَائِطُ الْوُجُوبِ فَأَنْوَاعٌ:
(مِنْهَا) الْعَقْلُ.
(وَمِنْهَا) الْبُلُوغُ.
(وَمِنْهَا) الذُّكُورَةُ، فَلَا تَجِبُ عَلَى الصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ وَالْمَجَانِينِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَوْجَبَ الْجِزْيَةَ عَلَى مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} الْآيَةَ وَالْمُقَاتَلَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنْ الْقِتَالِ فَتَسْتَدْعِي أَهْلِيَّةِ الْقِتَالِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، فَلَا تَجِبُ عَلَى مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ.
(وَمِنْهَا) الصِّحَّةُ، فَلَا تَجِبُ عَلَى الْمَرِيضِ إذَا مَرِضَ السَّنَةَ كُلَّهَا؛ لِأَنَّ الْمَرِيضَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِتَالِ، وَكَذَلِكَ إنْ مَرِضَ أَكْثَرَ السَّنَةِ، وَإِنْ صَحَّ أَكْثَرَ السَّنَةِ وَجَبَتْ؛ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ.
(وَمِنْهَا) السَّلَامَةُ عَنْ الزَّمَانَةِ وَالْعَمَى وَالْكِبَرِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، فَلَا تَجِبُ عَلَى الزَّمِنِ وَالْأَعْمَى وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ، وَتَجِبُ عَلَى هَؤُلَاءِ إذَا كَانَ لَهُمْ مَالٌ، وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ عَادَةً أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَا يُقْتَلُونَ؟ وَكَذَا الْفَقِيرُ الَّذِي لَا يَعْتَمِلُ لَا قُدْرَةَ لَهُ لِأَنَّ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْعَمَلِ لَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ.
(وَأَمَّا) أَصْحَابُ الصَّوَامِعِ فَعَلَيْهِمْ الْجِزْيَةُ إذَا كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى الْعَمَلِ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، فَعَدَمُ الْعَمَلِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْعَمَلِ لَا يَمْنَعُ الْوُجُوبَ، كَمَا إذَا كَانَ لَهُ أَرْضٌ خَرَاجِيَّةٌ فَلَمْ يَزْرَعْهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الزِّرَاعَةِ، لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْخَرَاجُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَمِنْهَا) الْحُرِّيَّةُ، فَلَا تَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ مِلْكِ الْمَالِ.
(وَأَمَّا) وَقْتُ الْوُجُوبِ فَأَوَّلُ السَّنَةِ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ لِحَقْنِ الدَّمِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَلَا تُؤَخَّرُ إلَى آخِرِ السَّنَةِ، وَلَكِنْ تُؤْخَذُ فِي كُلِّ شَهْرٍ مِنْ الْفَقِيرِ دِرْهَمٌ، وَمِنْ الْمُتَوَسِّطِ دِرْهَمَانِ، وَمِنْ الْغَنِيِّ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ.
(وَأَمَّا) بَيَانُ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ فَنَقُولُ- وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: الْجِزْيَةُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: جِزْيَةٌ تُوضَعُ بِالتَّرَاضِي، وَهُوَ الصُّلْحُ، وَذَلِكَ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ، كَمَا صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ نَجْرَانَ عَلَى أَلْفٍ وَمِائَتَيْ حُلَّةٍ وَجِزْيَةٌ يَضَعُهَا الْإِمَامُ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُمْ، بِأَنْ ظَهَرَ الْإِمَامُ عَلَى أَرْضِ الْكُفَّارِ، وَأَقَرَّهُمْ عَلَى أَمْلَاكِهِمْ، وَجَعَلَهُمْ ذِمَّةً، وَذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ مَرَاتِبَ؛ لِأَنَّ الذِّمَّةَ ثَلَاثُ طَبَقَاتٍ: أَغْنِيَاءُ، وَأَوْسَاطٌ، وَفُقَرَاءُ، فَيَضَعُ عَلَى الْغَنِيِّ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْوَسَطِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِلِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا كَذَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَمَرَ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ حِينَ بَعَثَهُ إلَى السَّوَادِ أَنْ يَضَعَ هَكَذَا وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَهُوَ كَالْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ مَعَ مَا أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَأْيًا؛ لِأَنَّ الْمُقَدَّرَاتِ سَبِيلُ مَعْرِفَتِهَا التَّوْقِيفُ وَالسَّمْعُ لَا الْعَقْلُ، فَهُوَ كَالْمَسْمُوعِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ الْغَنِيِّ فِي هَذَا الْبَابِ، وَالْوَسَطِ، وَالْفَقِيرِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: مَنْ لَمْ يَمْلِكْ نِصَابًا تَجِبُ فِي مِثْلِهِ الزَّكَاةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ مِائَتَا دِرْهَمٍ، فَهُوَ فَقِيرٌ، وَمَنْ مَلَكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَهُوَ مِنْ الْأَوَاسِطِ، وَمَنْ مَلَكَ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا فَهُوَ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمَا قَالَا: أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ فَمَا دُونَهَا نَفَقَةٌ، وَمَا فَوْقَ ذَلِكَ كَنْزٌ وَقِيلَ: مَنْ مَلَكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ إلَى عَشْرَةِ آلَافٍ فَمَا دُونَهَا فَهُوَ مِنْ الْأَوْسَاطِ وَمَنْ مَلَكَ زِيَادَةً عَلَى عَشَرَةِ آلَافٍ فَهُوَ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) مَا يُسْقِطُهَا بَعْدَ الْوُجُوبِ فَأَنْوَاعٌ:
(مِنْهَا) الْإِسْلَامُ.
(وَمِنْهَا) الْمَوْتُ عِنْدَنَا، فَإِنَّ الذِّمِّيَّ إذَا أَسْلَمَ أَوْ مَاتَ سَقَطَتْ الْجِزْيَةُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- لَا تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ وَالْإِسْلَامِ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْجِزْيَةَ وَجَبَتْ عِوَضًا عَنْ الْعِصْمَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ} إلَى قَوْلِهِ جَلَّ شَأْنُهُ: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} أَبَاحَ- جَلَّتْ عَظَمَتُهُ- دِمَاءَ أَهْلِ الْقِتَالِ ثُمَّ حَقَنَهَا بِالْجِزْيَةِ، فَكَانَتْ الْجِزْيَةُ عِوَضًا عَنْ حَقْنِ الدَّمِ، وَقَدْ حَصَلَ لَهُ الْعِوَضُ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي، فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْعِوَضُ.
(وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ عَلَى مُسْلِمٍ جِزْيَةٌ» وَعَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ رَفَعَ الْجِزْيَةَ بِالْإِسْلَامِ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ إنَّ فِي الْإِسْلَامِ لَمَعَاذًا إنْ فَعَلَ وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ، فَلَا تَبْقَى بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَالْمَوْتِ، كَالْقِتَالِ عَلَى أَنَّهَا وَجَبَتْ وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ أَنَّ الْإِسْلَامَ فُرِضَ بِالنُّصُوصِ وَالْجِزْيَةُ تَتَضَمَّنُ تَرْكَ الْقِتَالِ، فَلَا يَجُوزُ شَرْعُ عَقْدِ الذِّمَّةِ وَالْجِزْيَةِ الَّذِي فِيهِ تَرْكُ الْقِتَالِ إلَّا لِمَا شُرِعَ لَهُ الْقِتَالُ، وَهُوَ التَّوَسُّلُ إلَى الْإِسْلَامِ، وَإِلَّا فَيَكُونُ تَنَاقُضًا، وَالشَّرِيعَةُ لَا تَتَنَاقَضُ وَتَعَذَّرَ تَحْقِيقُ مَعْنَى التَّوَسُّلِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْإِسْلَامِ، فَيَسْقُطُ ضَرُورَةً وَقَوْلُهُ: إنَّهَا وَجَبَتْ عِوَضًا عَنْ حَقْنِ الدَّمِ مَمْنُوعٌ بَلْ مَا وَجَبَتْ إلَّا وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ تَمْكِينَ الْكَفَرَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَتَرْكَ قِتَالِهِمْ مَعَ قَوْلِهِمْ فِي اللَّهِ مَا لَا يَلِيقُ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلْوُصُولِ إلَى عَرَضٍ يَسِيرٍ مِنْ الدُّنْيَا، خَارِجٌ عَنْ الْحُكْمِ وَالْعَقْلِ فَأَمَّا التَّوَسُّلُ إلَى الْإِسْلَامِ، وَإِعْدَامُ الْكَفَرَةِ فَمَعْقُولٌ، مَعَ مَا أَنَّهَا إنْ وَجَبَتْ لِحَقْنِ الدَّمِ، فَإِنَّمَا تَجِبُ كَذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَإِذَا صَارَ دَمُهُ مَحْقُونًا فِيمَا مَضَى فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ لِأَجْلِهِ فَتَسْقُطُ.
(وَمِنْهَا) مُضِيُّ سَنَةٍ تَامَّةٍ، وَدُخُولُ سَنَةٍ أُخْرَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا تَسْقُطُ، حَتَّى إنَّهُ إذَا مَضَى عَلَى الذِّمَّةِ سَنَةٌ كَامِلَةٌ وَدَخَلَتْ سَنَةٌ أُخْرَى قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَهَا الذِّمِّيُّ تُؤْخَذُ مِنْهُ لِلسَّنَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، وَلَا تُؤْخَذُ لِلسَّنَةِ الْمَاضِيَةِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا تُؤْخَذُ لِمَا مَضَى مَا دَامَ ذِمِّيًّا وَالْمَسْأَلَةُ تُعْرَفُ بِالْمَوَانِيد أَنَّهَا تُؤْخَذُ أَمْ لَا؟ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْجِزْيَةَ أَحَدُ نَوْعَيْ الْخَرَاجِ فَلَا تَسْقُطُ بِالتَّأْخِيرِ إلَى سَنَةٍ أُخْرَى اسْتِدْلَالًا بِالْخَرَاجِ الْآخَرِ، وَهُوَ خَرَاجُ الْأَرْضِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَيْنٌ، فَلَا تَسْقُطُ بِالتَّأْخِيرِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- وَجْهَانِ (أَحَدُهُمَا) أَنَّ الْجِزْيَةَ مَا وَجَبَتْ إلَّا لِرَجَاءِ الْإِسْلَامِ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ حَتَّى دَخَلَتْ سَنَةٌ أُخْرَى، انْقَطَعَ الرَّجَاءُ فِيمَا مَضَى وَبَقِيَ الرَّجَاءُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَيُؤْخَذُ لِلسَّنَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ وَالثَّانِي أَنَّ الْجِزْيَةَ إنَّمَا جُعِلَتْ لِحَقْنِ الدَّمِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَإِذَا صَارَ دَمُهُ مَحْقُونًا فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، فَلَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ لِأَجْلِهَا؛ لِانْعِدَامِ الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ كَمَا إذَا أَسْلَمَ أَوْ مَاتَ تَسْقُطُ عَنْهُ الْجِزْيَةُ؛ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَى الْحَقْنِ بِالْجِزْيَةِ كَذَا هَذَا وَالِاعْتِبَارُ بِخَرَاجِ الْأَرْضِ غَيْرُ سَدِيدٍ، فَإِنَّ الْمَجُوسِيَّ إذَا أَسْلَمَ بَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ خَرَاجُ الْأَرْضِ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ خَرَاجُ الرَّأْسِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا- رَحِمَهُمُ اللَّهُ- وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ كَسَائِرِ الدُّيُونِ، فَبَطَلَ الِاعْتِبَارُ بِهَا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) صِفَةُ الْعَقْدِ فَهُوَ أَنَّهُ لَازِمٌ فِي حَقِّنَا حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْمُسْلِمُونَ نَقْضَهُ بِحَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ.
وَأَمَّا فِي حَقِّهِمْ فَغَيْرُ لَازِمٍ بَلْ يَحْتَمِلُ الِانْتِفَاعَ فِي الْجُمْلَةِ؛ لَكِنَّهُ لَا يَنْتَقِضُ إلَّا بِأَحَدِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ أَحَدُهَا: أَنْ يُسْلِمَ الذِّمِّيُّ لِمَا مَرَّ أَنَّ الذِّمَّةَ عُقِدَتْ وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ، وَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ وَالثَّانِي: أَنْ يَلْحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَدِّ، إلَّا أَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ يُسْتَرَقُّ، وَالْمُرْتَدُّ إذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ لَا يُسْتَرَقُّ لِمَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ- اللَّهُ تَعَالَى- (وَالثَّالِثُ) أَنْ يَغْلِبُوا عَلَى مَوْضِعٍ فَيُحَارِبُونَ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَقَدْ صَارُوا أَهْلَ الْحَرْبِ وَيُنْتَقَضُ الْعَهْدُ ضَرُورَةً، وَلَوْ امْتَنَعَ الذِّمِّيُّ مِنْ إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ لَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُ؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِعُذْرِ الْعَدَمِ فَلَا يُنْتَقَضُ الْعَهْدُ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ، وَكَذَلِكَ لَوْ سَبَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا زِيَادَةُ كُفْرٍ عَلَى كُفْرٍ، وَالْعَهْدُ يَبْقَى مَعَ أَصْلِ الْكُفْرِ فَيَبْقَى مَعَ الزِّيَادَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَ مُسْلِمًا أَوْ زَنَى بِمُسْلِمَةٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ مَعَاصٍ ارْتَكَبُوهَا وَهِيَ دُونَ الْكُفْرِ فِي الْقُبْحِ وَالْحُرْمَةِ ثُمَّ بَقِيَتْ الذِّمَّةُ مَعَ الْكُفْرِ، فَمَعَ الْمَعْصِيَةِ أَوْلَى وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) بَيَانُ مَا يُؤْخَذُ بِهِ أَهْلُ الذِّمَّةِ، وَمَا يَتَعَرَّضُ لَهُ وَمَا لَا يَتَعَرَّضُ فَنَقُولُ- وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقِ: إنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ يُؤْخَذُونَ بِإِظْهَارِ عَلَامَاتٍ يُعْرَفُونَ بِهَا، وَلَا يُتْرَكُونَ يَتَشَبَّهُونَ بِالْمُسْلِمِينَ فِي لِبَاسِهِمْ وَمَرْكَبِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ، فَيُؤْخَذُ الذِّمِّيُّ بِأَنْ يَجْعَلَ عَلَى وَسَطِهِ كَشْحًا مِثْلَ الْخَيْطِ الْغَلِيظِ، وَيَلْبَسَ قَلَنْسُوَةً طَوِيلَةً مَضْرُوبَةً وَيَرْكَبَ سَرْجًا عَلَى قَرَبُوسِهِ مِثْلَ الرُّمَّانَةِ، وَلَا يَلْبَسَ طَيْلَسَانًا مِثْلَ طَيَالِسَةِ الْمُسْلِمِينَ وَرِدَاءً مِثْلَ أَرْدِيَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ- رَحِمَهُ اللَّهُ- مَرَّ عَلَى رِجَالٍ رُكُوبٍ ذَوِي هَيْئَةٍ فَظَنَّهُمْ مُسْلِمِينَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ، تَدْرِي مَنْ هَؤُلَاءِ؟ فَقَالَ: مَنْ هُمْ؟ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ فَلَمَّا أَتَى مَنْزِلَهُ أَمَرَ أَنْ يُنَادِي فِي النَّاسِ أَنْ لَا يَبْقَى نَصْرَانِيٌّ إلَّا عَقَدَ نَاصِيَتَهُ، وَرَكِبَ الْإِكَافَ.
وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَيَكُونُ كَالْإِجْمَاعِ، وَلِأَنَّ السَّلَامَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فَيَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إلَى إظْهَارِ هَذِهِ الشَّعَائِرِ عِنْدَ الِالْتِقَاءِ، وَلَا يُمْكِنُهُمْ ذَلِكَ إلَّا بِتَمْيِيزِ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالْعَلَامَةِ، وَلِأَنَّ فِي إظْهَارِ هَذِهِ الْعَلَامَاتِ إظْهَارَ آثَارِ الذِّلَّةِ عَلَيْهِمْ، وَفِيهِ صِيَانَةُ عَقَائِدِ ضَعَفَةِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ التَّغْيِيرِ عَلَى مَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} وَكَذَا يَجِبُ أَنْ يَتَمَيَّزَ نِسَاؤُهُمْ عَنْ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي حَالِ الْمَشْيِ فِي الطَّرِيقِ، وَيَجِبُ التَّمْيِيزُ فِي الْحَمَّامَاتِ فِي الْأُزُرِ، فَيُخَالِفُ أُزُرُهُمْ أُزُرَ الْمُسْلِمِينَ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَا يَجِبُ أَنْ تُمَيَّزَ الدُّورُ بِعَلَامَاتٍ تُعْرَفُ بِهَا دُورُهُمْ مِنْ دُورِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِيَعْرِفَ السَّائِلُ الْمُسْلِمُ أَنَّهَا دُورُ الْكَفَرَةِ، فَلَا يَدْعُو لَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ، وَيُتْرَكُونَ أَنْ يَسْكُنُوا فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ يَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ شُرِعَ لِيَكُونَ وَسِيلَةً لَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ، وَتَمْكِينُهُمْ مِنْ الْمُقَامِ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ أَبْلَغُ إلَى هَذَا الْمَقْصُودِ.
وَفِيهِ أَيْضًا مَنْفَعَةُ الْمُسْلِمِينَ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، فَيُمَكَّنُونَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يُمَكَّنُونَ مِنْ بَيْعِ الْخُمُورِ وَالْخَنَازِيرِ فِيهَا ظَاهِرًا؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّهِمْ كَمَا هِيَ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْحُرُمَاتِ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ، فَكَانَ إظْهَارُ بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ مِنْهُمْ إظْهَارًا لِلْفِسْقِ فَيُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ.
وَعِنْدَهُمْ: أَنَّ ذَلِكَ مُبَاحٌ فَكَانَ إظْهَارَ شَعَائِرِ الْكُفْرِ فِي مَكَان مُعَدٍّ لِإِظْهَارِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ أَمْصَارُ الْمُسْلِمِينَ فَيُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ وَكَذَا يُمْنَعُونَ مِنْ إدْخَالِهَا فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ ظَاهِرًا وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: إنِّي لَا أَمْنَعُهُمْ مِنْ إدْخَالِ الْخَنَازِيرِ فَرَّقَ بَيْنَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ لِمَا فِي الْخَمْرِ مِنْ خَوْفِ وُقُوعِ الْمُسْلِمِ فِيهَا وَلَا يُتَوَهَّمُ ذَلِكَ فِي الْخِنْزِيرِ.
وَلَا يُمَكَّنُونَ مِنْ إظْهَارِ صَلِيبِهِمْ فِي عِيدِهِمْ؛ لِأَنَّهُ إظْهَارُ شَعَائِرِ الْكُفْرِ، فَلَا يُمَكَّنُونَ مِنْ ذَلِكَ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ فِي كَنَائِسِهِمْ لَا يُتَعَرَّضُ لَهُمْ وَكَذَا لَوْ ضَرَبُوا النَّاقُوسَ فِي جَوْفِ كَنَائِسِهِمْ الْقَدِيمَةِ لَمْ يُتَعَرَّضْ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّ إظْهَارَ الشَّعَائِرِ لَمْ يَتَحَقَّقْ، فَإِنْ ضَرَبُوا بِهِ خَارِجًا مِنْهَا لَمْ يُمَكَّنُوا مِنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ إظْهَارِ الشَّعَائِرِ، وَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ إظْهَارِ شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنْ بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، وَالصَّلِيبِ، وَضَرْبِ النَّاقُوسِ فِي قَرْيَةٍ، أَوْ مَوْضِعٍ لَيْسَ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ عَدَدٌ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَإِنَّمَا يُكْرَهُ ذَلِكَ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ، وَهِيَ الَّتِي يُقَامُ فِيهَا الْجُمَعُ وَالْأَعْيَادُ وَالْحُدُودُ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ إظْهَارِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ؛ لِكَوْنِهِ إظْهَارَ شَعَائِرِ الْكُفْرِ فِي مَكَانِ إظْهَارِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، فَيَخْتَصُّ الْمَنْعُ بِالْمَكَانِ الْمُعَدِّ لِإِظْهَارِ الشَّعَائِرِ وَهُوَ الْمِصْرُ الْجَامِعُ.
(وَأَمَّا) إظْهَارُ فِسْقٍ يَعْتَقِدُونَ حُرْمَتَهُ كَالزِّنَا وَسَائِرِ الْفَوَاحِشِ الَّتِي هِيَ حَرَامٌ فِي دِينِهِمْ، فَإِنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانُوا فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ فِي أَمْصَارِهِمْ وَمَدَائِنِهِمْ وَقُرَاهُمْ، وَكَذَا الْمَزَامِيرُ وَالْعِيدَانُ، وَالطُّبُولُ فِي الْغِنَاءِ، وَاللَّعِبُ بِالْحَمَامِ، وَنَظِيرُهَا، يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى؛ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ حُرْمَةَ هَذِهِ الْأَفْعَالِ كَمَا نَعْتَقِدُهَا نَحْنُ فَلَمْ تَكُنْ مُسْتَثْنَاةً عَنْ عَقْدِ الذِّمَّةِ لِيُقَرُّوا عَلَيْهَا.
(وَأَمَّا) الْكَنَائِسُ وَالْبِيَعُ الْقَدِيمَةُ فَلَا يُتَعَرَّضُ لَهَا وَلَا يُهْدَمُ شَيْءٌ مِنْهَا.
(وَأَمَّا) إحْدَاثُ كَنِيسَةٍ أُخْرَى فَيُمْنَعُونَ عَنْهُ فِيمَا صَارَ مِصْرًا مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا كَنِيسَةَ فِي الْإِسْلَامِ إلَّا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ».
وَلَوْ انْهَدَمَتْ كَنِيسَةٌ فَلَهُمْ أَنْ يَبْنُوهَا كَمَا كَانَتْ؛ لِأَنَّ لِهَذَا الْبِنَاءِ حُكْمَ الْبَقَاءِ، وَلَهُمْ أَنْ يَسْتَبْقُوهَا فَلَهُمْ أَنْ يَبْنُوهَا، وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُحَوِّلُوهَا مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ التَّحْوِيلَ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ فِي حُكْمِ إحْدَاثِ كَنِيسَةٍ أُخْرَى.
(وَأَمَّا) فِي الْقُرَى أَوْ فِي مَوْضِعٍ لَيْسَ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ إحْدَاثِ الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ، كَمَا لَا يُمْنَعُونَ مِنْ إظْهَارِ بَيْعِ الْخُمُورِ وَالْخَنَازِيرِ لِمَا بَيَّنَّا وَلَوْ ظَهَرَ الْإِمَامُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَرَأَى أَنْ يَجْعَلَهُمْ ذِمَّةً، وَيَضَعَ عَلَى رُءُوسِهِمْ الْجِزْيَةَ.
وَعَلَى أَرَاضِيهِمْ الْخَرَاجَ، لَا يُمْنَعُونَ مِنْ اتِّخَاذِ الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ، وَإِظْهَارِ بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ؛ لِأَنَّ الْمَمْنُوعَ إظْهَارُ شَعَائِرِ الْكُفْرِ فِي مَكَانِ إظْهَارِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ أَمْصَارُ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يُوجَدْ بِخِلَافِ مَا إذَا صَارُوا ذِمَّةً بِالصُّلْحِ، بِأَنْ طَلَبَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنَّا أَنْ يَصِيرُوا ذِمَّةً يُؤَدُّونَ عَنْ رِقَابِهِمْ وَأَرَاضِيهِمْ شَيْئًا مَعْلُومًا، وَنُجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فَصَالَحْنَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَكَانَتْ أَرَاضِيهِمْ مِثْلَ أَرَاضِي الشَّامِ مَدَائِنَ وَقُرًى، وَرَسَاتِيقَ وَأَمْصَارًا، إنَّهُ لَا يُتَعَرَّضُ لِكَنَائِسِهِمْ الْقَدِيمَةِ، وَلَكِنَّهُمْ لَوْ أَرَادُوا أَنْ يُحْدِثُوا شَيْئًا مِنْهَا يُمْنَعُوا مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مِصْرًا مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ.
وَإِحْدَاثُ الْكَنِيسَةِ فِي مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ مَمْنُوعٌ عَنْهُ شَرْعًا فَإِنْ مَصَّرَ الْإِمَامُ مِصْرًا لِلْمُسْلِمِينَ، كَمَا مَصَّرَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْكُوفَةَ وَالْبَصْرَةَ، فَاشْتَرَى قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ دُورًا، وَأَرَادُوا أَنْ يَتَّخِذُوا فِيهَا كَنَائِسَ لَا يُمَكَّنُوا مِنْ ذَلِكَ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَلِكَ لَوْ تَخَلَّى رَجُلٌ فِي صَوْمَعَتِهِ مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي مَعْنَى اتِّخَاذِ الْكَنِيسَةِ، وَكُلُّ مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُشْرِكِينَ ظَهَرَ عَلَيْهِ الْإِمَامُ عَنْوَةً، وَجَعَلَهُمْ ذِمَّةً فَمَا كَانَ فِيهِ كَنِيسَةٌ قَدِيمَةٌ مَنَعَهُمْ مِنْ الصَّلَاةِ فِي تِلْكَ الْكَنَائِسِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا فُتِحَ عَنْوَةً فَقَدْ اسْتَحَقَّهُ الْمُسْلِمُونَ، فَيَمْنَعُهُمْ مِنْ الصَّلَاةِ فِيهَا، وَيَأْمُرُهُمْ أَنْ يَتَّخِذُوهَا مَسَاكِنَ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَهْدِمَهَا وَكَذَلِكَ كُلُّ قَرْيَةٍ جَعَلَهَا الْإِمَامُ مِصْرًا، وَلَوْ عَطَّلَ الْإِمَامُ هَذَا الْمِصْرَ وَتَرَكُوا إقَامَةَ الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ وَالْحُدُودِ فِيهِ، كَانَ لِأَهْلِ الْقَرْيَةِ أَنْ يُحْدِثُوا مَا شَاءُوا؛ لِأَنَّهُ عَادَ قَرْيَةً كَمَا كَانَتْ نَصْرَانِيَّةً تَحْتَ مُسْلِمٍ لَا يُمَكِّنُهَا مِنْ نَصْبِ الصَّلِيبِ فِي بَيْتِهِ؛ لِأَنَّ نَصْبَ الصَّلِيبِ كَنَصْبِ الصَّنَمِ، وَتُصَلِّي فِي بَيْتِهِ حَيْثُ شَاءَتْ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمُ أَرْضِ الْعَجَمِ.
(وَأَمَّا) أَرْضُ الْعَرَبِ فَلَا يُتْرَكُ فِيهَا كَنِيسَةٌ، وَلَا بِيعَةٌ وَلَا يُبَاعُ فِيهَا الْخَمْرُ وَالْخِنْزِيرُ مِصْرًا كَانَ أَوْ قَرْيَةً، أَوْ مَاءً مِنْ مِيَاهِ الْعَرَبِ، وَيُمْنَعُ الْمُشْرِكُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا أَرْضَ الْعَرَبِ مَسْكَنًا وَوَطَنًا كَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ تَفْضِيلًا لِأَرْضِ الْعَرَبِ عَلَى غَيْرِهَا، وَتَطْهِيرًا لَهَا عَنْ الدِّينِ الْبَاطِلِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ».
وَأَمَّا الِالْتِجَاءُ إلَى الْحَرَمِ فَإِنَّ الْحَرْبِيَّ إذَا الْتَجَأَ إلَى الْحَرَمِ، لَا يُبَاحُ قَتْلُهُ فِي الْحَرَمِ، وَلَكِنْ لَا يُطْعَمُ وَلَا يُسْقَى وَلَا يُؤْوَى، وَلَا يُبَايَعُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ الْحَرَمِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ: يُقْتَلُ فِي الْحَرَمِ أَصْحَابُنَا فِيمَا بَيْنَهُمْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ: لَا يُقْتَلُ فِي الْحَرَمِ، وَلَا يُخْرَجُ مِنْهُ أَيْضًا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ- رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يُبَاحُ قَتْلُهُ فِي الْحُرُمِ، وَلَكِنْ يُبَاحُ إخْرَاجُهُ مِنْ الْحَرَمِ لِلشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وَحَيْثُ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْمَكَانِ، فَكَانَ هَذَا إبَاحَةً لِقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْأَمَاكِنِ كُلِّهَا.
(وَلَنَا) قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {أَوْ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} إذَا دَخَلَ مُلْتَجِئًا، أَمَّا إذَا دَخَلَ مُكَابِرًا أَوْ مُقَاتِلًا يُقْتَلُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} وَلِأَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ مُقَاتِلًا فَقَدْ هَتَكَ حُرْمَةَ الْحَرَمِ، فَيُقْتَلُ تَلَافِيًا لِلْهَتْكِ زَجْرًا لِغَيْرِهِ عَنْ الْهَتْكِ وَكَذَلِكَ لَوْ دَخَلَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لِلْقِتَالِ، فَإِنَّهُمْ يُقْتَلُونَ، وَلَوْ انْهَزَمُوا مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي قَتْلِهِمْ وَأَسْرِهِمْ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.